انهيار كريدي سويس... جرس إنذار لمواجهة أزمات البنوك
يرى جيروم ليغراس، رئيس قسم الأبحاث في شركة أكسيوم للاستثمارات البديلة، أن مستثمري البنوك يدركون حجم هذه المخاطر، مشيرًا إلى أنه رغم الإجراءات التي اتخذت سريعًا، فإن الإفلاسات الأخيرة غير مسبوقة.

ترجمات – السياق
بعد أيام من الانهيار، الذي ضرب عددًا من البنوك الأمريكية، في مقدمتها "سيليكون فالي"، و"سيغنيتشر"، و"فيرست ريبابليك"، يبدو أن العدوى انتقلت إلى أحد أبرز البنوك السويسرية "كريدي سويس"، ما أثار مخاوف من أن تصبح مخاطر البنوك ظاهرة دولية.
ويمر "كريدي سويس"، ثاني أكبر بنك في سويسرا ويعمل منذ 167 عامًا، بأزمة ثقة، بينما تراجعت أسهمه في الأيام الماضية، ما أثار كثيرًا من المخاوف في الأسواق من انهياره.
كانت تقارير قد تحدثت عن مفاوضات متقدمة مع بنك يو بي إس، لشراء منافسه الذي يمر بمشكلات مالية، بنك كريدي سويس، أو على الأقل جزء من أسهمه.
وتشمل الصفقة 100 مليار فرنك سويسري، لتوفير السيولة لبنك يو بي إس وكريدي سويس.
وفي ذلك، يرى جيروم ليغراس، رئيس قسم الأبحاث في شركة أكسيوم للاستثمارات البديلة، أن مستثمري البنوك يدركون حجم هذه المخاطر، مشيرًا إلى أنه رغم الإجراءات التي اتخذت سريعًا، فإن الإفلاسات الأخيرة غير مسبوقة.
وقال في تحليل نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية: "المستثمرون يعلمون أن الخدمات المصرفية تعتمد على الثقة، وأن الأمور يمكن أن تتغير سريعًا، ومع ذلك، فإن الأزمة التي يواجهها بنك كريدي سويس، ظاهرة لم يشهدها القطاع المصرفي العالمي".
فشل البنوك
وأرجع ليغراس فشل البنوك إلى ما سماها "الخسائر الخفية"، سواء كانت في دفاتر القروض أم دفاتر المشتقات أو السندات.
وأشار إلى أنه رغم أن هذه الحلقة الأخيرة من الذعر في السوق ناجمة عن خسائر السندات في البنوك الأمريكية متوسطة الحجم، فإنه لا يوجد ما يشير إلى أن أزمة كريدي سويس بسبب هذه المشكلة، متسائلًا: كيف حدث هذا وما الدروس التي يمكننا استخلاصها من الأزمة، وكيف تدخلت السلطات السويسرية لاحتواء الأمر؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة، رأى رئيس قسم الأبحاث في شركة أكسيوم للاستثمارات البديلة، أنه في ظل اهتزاز السوق المصرفي العالمي -في أعقاب انهيار بنكي وادي السيليكون وسيغنيتشر- كان بيان أكبر مساهم في "كريدي سويس" بأنه لن يقدم أي مساعدة إضافية، مُحرجًا بما فيه الكفاية، لأن يتسبب في انهيار أسهم البنك لأدنى مستوى.
ورغم أنه لا يمكن الربط بين ما حدث لبنك كريدي سويس، وما حدث في بنك سيليكون فالي، أو البنوك الأمريكية الأخرى، إذ إن حجم البنك مختلف والأسباب مختلفة، فإنه بالتأكيد كان لأسعار الفائدة أثر كبير في إظهار نقاط الضعف بالقطاع المصرفي.
لكن ما أسهم في ازدياد الذعر الذي ضرب الأسواق المالية، تصريحات أكبر مساهمي "كريدي سويس"، الداعم الأكبر له (البنك الأهلي السعودي) بأنه لم يعد بمقدوره مساعدة البنك مرة أخرى، ولن يستطيع تقديم مزيد من الأموال، بعد شراء حصة تقارب 10% مقابل 1.5% العام الماضي.
لذلك يرى ليغراس أنه ليس من قبيل المصادفة أن "كريدي سويس" أصبح الهدف الرئيس للأسواق، لافتًا إلى أنه لسنوات تورط في سلسلة من الفضائح والخلافات الإدارية، مضيفًا: "تقرير البنك السنوي دائمًا ما يحوي قائمة طويلة من الدعاوى القضائية القديمة والجديدة، جنبًا إلى جنب مع الاعتراف بضعف ضوابط المخاطر".
ذلك بالنظر إلى أن بنك كريدي سويس يواجه عديد التحديات منذ سنوات، تكلفت مليارات الدولارات، فعلى سبيل المثال تعرض البنك خلال العقد الماضي لغرامات وعقوبات تتعلق بإخفاء حسابات أمريكيين، وعدم الامتثال لقوانين "الفاتكا" الأمريكية، ما ترتب عليه سداد البنك غرامات بنحو 2.6 مليار دولار للحكومة الفيدرالية الأمريكية والجهات التنظيمية في نيويورك، كجزء من التسوية في تلك القضية.
و"فاتكا" هو قانون الامتثال الضريبي الأمريكي، ويهدف إلى التصدي لعمليات التهرب الضريبي لبعض الأمريكيين من خلال استخدام حسابات تفتح في مؤسسات مالية أجنبية خارج الولايات المتحدة.
الحلقة الأضعف
ووفق ليغراس، أثبت "كريدي سويس" أنه الحلقة الأضعف بين البنوك الأوروبية النظامية على مستوى العالم، رغم أنه كان يحتوي على كثير من رأس المال والسيولة.
وأشار إلى أنه رغم أن "كريدي سويس" ليس البنك الوحيد الذي يتمتع بربحية منخفضة، ولا الوحيد الذي شهد تدفقات الودائع الخارجة في الربع الأخير، وأيضًا ليس البنك الوحيد الذي واجه فضائح، فإنه يُعد البنك الوحيد الذي اجتمعت لديه كل نقاط الضعف هذه في أسوأ لحظة ممكنة.
فقد تضررت سمعة البنك، بسبب فضيحة محاسبية لشركة لوشين كافيه الصينية، عندما عمل البنك ضامنًا للاكتتاب، خلال طرح الشركة في بورصة ناسداك عام 2019، وتبيّن بعد ذلك أن الشركة الصينية ضخمت المبيعات، عن طريق الاحتيال لتعظيم قيمة الشركة، ومن ثم زيادة حجم ما تجمعه من أموال خلال الطرح، لكن ليست تلك الحالة الوحيدة، فعام 2020 استقال الرئيس التنفيذي للبنك تيغاني ثيام، بعد فضائح تجسس، تورط فيها عدد من المسؤولين بالبنك.
وعام 2021، تسبب انهيار صندوق التحوط الأمريكي "آرشيغوس كابيتال" في خسارة البنك قرابة 5.5 مليار دولار، ما ألحق ضررًا كبيرًا بالبنك.
وقد أثبت التحقيق أن بنك كريدي سويس سمح لذلك الصندوق بالاستثمار في أصول ذات مخاطر مرتفعة، بل واحتمالات خسارتها مرتفعة للغاية، ما ترتب عليه انهيار صندوق التحوط الأمريكي.
وعام 2022، تعرض البنك لحملة كبيرة من الشائعات والتكهنات باحتمال انهيار البنك على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع العملاء إلى سحب مليارات الدولارات.
وتظهر البيانات المالية للبنك (قائمة التدفقات النقدية) أن التغير في النقدية في ذلك العام سالب 101 مليار دولار أمريكي، ما يشير إلى المبالغ التي سُحبت من البنك في ذلك العام، ما جعل البنك يتكبد خسائر عام 2022 وصلت إلى 7.6 مليارات دولار أمريكي، مقابل خسائر بنحو 1.7 مليار دولار أمريكي في العام السابق.
ووصل إجمالي الأصول التي خرجت من البنك قرابة 129.2 مليار دولار أمريكي قيست بمؤشر "صافي الأموال"، الذي يعبر عن التغير في العملاء الجدد، الذين وضعوا ودائعهم بالبنك، مقابل العملاء الذين سحبوا ودائعهم منه.
وخلال فبراير، انخفض سهم كريدي سويس إلى أدنى مستوياته، بعد أن سجل أكبر خسارة سنوية له منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث كانت الجهات التنظيمية تراجع التعليقات التي أدلى بها رئيس البنك بشأن صحة موارده المالية.
وكانت لكل تلك الأحداث آثار كبيرة في المؤشرات المالية للبنك، إذ تسببت تلك الأزمات في انخفاض حجم الودائع بالبنك بنسبة 41% لتصل إلى 252 مليار دولار أمريكي عام 2022 مقابل 430.6 مليار دولار أمريكي عام 2021، وانخفضت أصول البنك بنسبة 30% لتصل إلى 574.8 مليار دولار عام 2022 مقابل 828 مليار دولار عام 2021.
خيارات وقف النزف
وعن خيارات وقف النزف، أشار ليغراس إلى أن السلطات السويسرية لم تكن تملك أي خيار، خصوصًا بعد أن قرر عملاء "كريدي سويس" سحب أموالهم.
ويرى الكاتب أن الاندماج مع بنك يو بي إس كان الحل الوحيد أمام الجميع (السلطات السويسرية والمودعين ومسؤولي البنك).
وأشار إلى أنه رغم أن السلطات السويسرية ربما تتعرض لانتقادات، لأنها لم تفعل المزيد لفتح قنوات للمزايدة على لاعبين غير سويسريين لشراء أسهم البنك، فإنه لا يمكن لأحد إلقاء اللوم عليهم، بسبب ضيق الوقت، ولأنه من الصعب تصور دخول "فارس أبيض أجنبي" لإنقاذ البنك خلال ساعات.
وأكد بنك كريدي سويس في فبراير، أن العملاء سحبوا 110 مليارات فرنك سويسري (119 مليار دولار) من الأموال في الربع الأخير، بينما تكبد البنك أكبر خسارة سنوية له منذ الأزمة المالية، بلغت 7.29 مليار فرنك سويسري، كما استعان البنك في ديسمبر الماضي، بالمستثمرين عبر بيع أسهم بـ 4 مليارات فرنك سويسري.
والأربعاء الماضي، قال البنك الأهلي السعودي، أكبر المساهمين في "كريدي سويس"، للصحفيين إنه لا يمكنه تقديم مزيد من الأموال للبنك، لأنه مقيد بالعقبات التنظيمية، بينما قال إنه سعيد بخطة التحول الخاصة بالبنك.
وفقدت أسهم كريدي سويس أكثر من 75% من قيمتها خلال الاثني عشر شهرًا الماضية.
هذا هو السبب في أن "يو بي إس" كان في موقف تفاوضي قوي للغاية، وفق رئيس قسم الأبحاث في شركة أكسيوم للاستثمارات البديلة.
وبيّن أنه رغم إمكانية جدال البعض باحتمال خسارة الدعاوى القضائية، أو مزيد من القروض المعدومة، أو تكلفة تصفية بنك كريدي سويس الاستثماري، فإن "يو بي إس" سيدفع جزءًا بسيطًا من حقوق المساهمين في البنك، المقدرة بنحو 45 مليار فرنك سويسري (49 مليار دولار) نهاية العام الماضي.
وحتى بعد احتساب البيع المحتمل لبعض الأصول في بنك التجزئة السويسري لإدارة قضايا المنافسة، من المرجح أن تكون هذه الصفقة ذات قيمة كبيرة لمساهمي "يو إس بي"، ومن ثمّ يمكن أن تؤدي استعادة ثقة العميل وتكاليف التمويل المنخفضة إلى تغيير قواعد اللعبة لتحقيق الربحية، حسب الكاتب.
وأشار ليغراس إلى أن هناك عديد الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الأزم ، أبرزها، أن "نوبة واحدة من تقلبات السوق يمكن أن تعرض عمل عشرات الآلاف من الكادحين للخطر، الذين سيشعرون بالخيانة والاستياء، لمجرد أنهم اختاروا التعامل مع البنك أو المؤسسة الخطأ".
ومن ثمّ فإن ما حدث ناقوس خطر في عديد الأمور، أهمها الحاجة إلى مراجعة معايير بازل لمتطلبات رأس المال، إذ إن معدل كفاية رأس المال للبنك عام 2022 مثل 20% وهي نسبة تفوق النسبة المطلوبة بنسبة 10%، ومع ذلك فإن البنك كان مهددًا بالتعثر.
يجب أيضًا تعزيز نظم الحوكمة في المصارف عالميًا، لعدم تكرار حالات الفساد الكبيرة التي حدثت في ذلك البنك، كما أن السياسات النقدية الانكماشية عالميًا أصابت النظام المصرفي العالمي بدرجة كبيرة، وأظهرت نقاط الضعف فيه، ما يُمهد لنهاية الجولة الحالية من السياسات الانكماشية في وقت أقرب مما كان متصورًا.
ويعلق ليغراس على ذلك بالقول: "لقد فعل المنظمون والمستثمرون الكثير، لوقف مزيد من الانهيارات، لكن من الواضح أنه لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، حتى لا يتفاقم النزف أكثر وأكثر".