وول ستريت جورنال: أزمة الخبز في مصر توقظ مخاوف قديمة من اضطرابات سياسية
وول ستريت جورنال الأمريكية، سلطت الضوء على مدى تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المجتمع المصري

ترجمات - السياق
أثارت الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ أكثر من ثلاثة أشهر، مخاوف بشأن إمدادات القمح في الدول العربية، خاصة مصر التي تعد من أكبر البلدان المستوردة للقمح.
صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، سلَّطت الضوء على مدى تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المجتمع المصري، مشيرة إلى أن الدولة الأكبر استيرادًا للقمح في العالم، تواجه ضغوطًا على برنامج الغذاء المدعوم في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
واستشهدت الصحيفة بحال المواطنين في سوق السيدة زينب -أحد الأسواق الشهيرة بالقاهرة- وهو مركز مزدحم للطبقة العاملة في هذه المدينة، مشيرة إلى أنهم -لعقود من الزمان- كانوا يحصلون على الخبز البلدي المدعوم بسهولة ومن دون مقابل تقريبًا، إلا أنه ذات يوم من الشهر الماضي (فجأة) لم يستطيعوا الحصول عليه، ما أثار استياءهم.
سرعان ما بدأ الزبائن الصياح على خليل محمد، عامل مخبز البلدية، حينما لم يجدوا خبز يومهم، حتى أن أحد المواطنين ويدعى السيد محمد، 25 عامًا، وصف عملية الحصول على الخبز بـ"القتال".
وقال لمراسل "وول ستريت جورنال": "كان يجب أن تشاهد القتال، إذ بدا الأمر أشبه بأزمة جوع".
تأثير الحرب
وأشارت "وول ستريت جورنال" إلى أن مصر تعرضت لهزة قوية في استيراد القمح، بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ إنها تحصل على أكثر من 80% من واردات القمح من هذين البلدين.
وقالت: "في بلد غالبًا ما يتبع السخط السياسي ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فإن احتمال حدوث نقص في الخبز من التحديات الأمنية الأكثر إلحاحًا، التي واجهتها الدولة المصرية منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي السلطة عام 2014".
نتيجة لذلك -حسب الصحيفة- لجأت الحكومة إلى إقامة شبكة عالمية لإمدادات القمح الجديدة من باراغواي إلى الهند، ووجهت المزارعين إلى ضرورة حصاد القمح في وقت أبكر من المعتاد هذا العام، ووضعت خطة لشراء حبوب أكثر بنسبة 57% محليًا مقارنة بالعام السابق، وفقًا لبيانات رسمية.
وسعت مصر أيضًا إلى الحصول على قروض واستثمارات بمليارات الدولارات، من الحكومات المجاورة وصندوق النقد الدولي، للمساعدة في دفع تكاليف الخدمات الاجتماعية، مثل برنامج الخبز المدعوم الذي يوفر الخبز البلدي وغيره من المواد الأساسية مجانًا تقريبًا إلى 72 مليون مصري، من عدد السكان البالغ 103 ملايين.
وحدّدت السلطات، الأسعار التي يمكن أن تفرضها المتاجر على الخبز البلدي غير المدعوم، إضافة إلى (الخبز الفينو)، وهو لفائف طويلة على شكل الرغيف الفرنسي، وتُعد العنصر الأساسي للطبقة العاملة المصرية.
وحسب الصحيفة الأمريكية، أدت هذه الإجراءات إلى ضغوط في الأسواق، ونقلت عن عدد من بائعي الخبز قولهم: إن المخابز تفرض أسعارًا أعلى، وفي بعض الأحيان تنتج أقل، ما يؤدي إلى نقص متقطع في المعروض على المواطنين.
ويقول محمود ممدوح، 35 عامًا، الذي يبيع خبز "فينو" غير مدعوم للصحيفة: "نحن تحت ضغط كبير".
وأبدى ممدوح قلقه من أنه لن يتمكن من بيع الإنتاجية التي لديه بالفعل، خصوصًا مع توالي حملات مسؤولي وزارة التموين الحكومية على متجره، لفرض قيود الأسعار على (العيش الفينو)، مشيرًا إلى أنهم علقوا -قبل عطلة عيد الفطر بداية مايو الجاري- لافتة توضح أسعار الرغيف بجانب مدخل محله، ما أضر بعملية البيع برمتها.
مطالب بالدعم
على بُعد بضعة مبانٍ من متجر ممدوح، ينتقد صبحي محمد، 40 عامًا، بائع بلدي، الحكومة أيضًا، قائلا لـ "وول ستريت جورنال": "أنا أؤيدهم في محاولة كبح جماح الأسعار، لكن عليهم أن يدعمونا أولًا".
وبينت الصحيفة أنه منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، سارعت الحكومات من تركيا إلى إندونيسيا، ومن الصومال إلى لبنان، لإيجاد إمدادات جديدة للقمح والتعامل مع ارتفاع الأسعار، لكن المخاطر كبيرة بشكل خاص بالنسبة لمصر -الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الشرق الأوسط- حيث كان الاقتصاد في وضع محفوف بالمخاطر قبل الحرب.
وفي مارس الماضي، سمح البنك المركزي المصري، بتخفيض قيمة الجنيه المصري بنسبة 14% مقابل الدولار الأمريكي، لتمهيد الطريق لمناقشات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد.
وأشارت الصحيفة الأمريكية، إلى أن المركزي المصري حصل على 5 مليارات دولار من المملكة العربية السعودية، لتعزيز احتياطاته من العملات، بينما رفعت السلطات أسعار الفائدة بنقطتين مئويتين الخميس الماضي، في محاولة لمعالجة أعلى تضخم في نحو ثلاث سنوات.
وتعليقًا على ذلك، نقلت الصحيفة الأمريكية، عن محمد سليمان، الباحث المصري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة، قوله: "الحكومة تشعر بقلق شديد وتحاول إخماد الوضع المشتعل".
عقد اجتماعي
وترى "وول ستريت جورنال" أن الخبز، الذي يسميه المصريون "عيش" جزء من عقد اجتماعي بين المواطنين والحكومة، التي توفر الطعام والبنزين والكهرباء بأسعار معقولة.
وذكرت الصحيفة أن المصريين يعتمدون على الخبز بشكل كبير في طعامهم، إذ يصل إنفاق الفرد على الخبز في مصر إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف الرقم العالمي.
وبينت أن الزيادات الجديدة في أسعار الخبز ستؤثر بشكل كبير في بلد يعيش فيه نحو 30% من الناس على أقل من دولارين في اليوم، وفقًا للإحصاءات الرسمية المصرية، مشيرة إلى أن الأرغفة البلديّة غير المدعومة تكلف الآن نحو 7 سنتات للقطعة الواحدة، بينما الأرغفة المدعومة أقل من سنت واحد.
وذكرت الصحيفة أن السلطات المصرية تدخلت في أسواق القمح منذ أوائل القرن التاسع عشر، عندما أطلق حاكم عثماني برنامجًا لجمع القمح من المزارعين المحليين لصالح الجيش، لافتة إلى أنه في الخمسينيات من القرن الماضي، وجَّه الرئيس جمال عبدالناصر وكالات عدة لتحديد سعر الخبز، ما أوجد بيروقراطية لدعم تحديد الأسعار.
بينما حاول الرئيس أنور السادات، خفض الدعم عن المواد الغذائية بما في ذلك أنواع معينة من الخبز أواخر السبعينيات، لكن الاحتجاجات اندلعت يومين في المدن الكبرى، ما أسفر عن قتل العشرات، فتراجع السادات عن خطته سريعًا.
عام 2011، تسببت أسعار الخبز في أزمة أخرى، إذ أضرم رجل النار في نفسه، لأن سياسات الحكومة منعته من شراء الخبز المدعم، وانتهى الأمر بإطاحة الرئيس حسني مبارك في سلسلة من الانتفاضات في جميع أنحاء المنطقة المعروفة بالربيع العربي.
وبالنسبة للحكومة المصرية ارتفعت تكلفة دعم الخبز الرخيص والأطعمة الأخرى بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إذ تقدر الفاتورة بـ 90 مليار جنيه مصري (4.9 مليار دولار) للعام المالي 2023، مقابل 87 مليارًا العام السابق، بحسب الإحصاءات الرسمية.
كانت الحكومة المصرية، حصلت في أبريل الماضي، على 350 ألف طن من القمح من فرنسا وبلغاريا وروسيا، بينما -حسب الصحيفة الأمريكية- تنتظر المزيد من الشحنات من الهند، رغم أن نيودلهي أعلنت حظر بيع القمح عالميًا، بعد تعرض محصولها لموجة حر شديدة أتلفت الكثير منه.
القمح الأوكراني
ونقلت "وول ستريت جورنال" عن تجار سلع تأكيدهم أن نحو 300 ألف طن من القمح الأوكراني، كان من المفترض وصولها إلى الموانئ المصرية، إلا أنها ما زالت عالقة هناك بسبب استمرار الحرب.
وقال وزير التموين المصري، علي مصيلحي، في مؤتمر صحفي الثلاثاء الماضي: إن أوكرانيا اقترحت إرسال أربع شحنات متأخرة بالسكك الحديدية عبر بولندا.
وأوضحت الصحيفة أنه منذ أن تولى السيسي السلطة، سعى إلى تعزيز المحرك الاقتصادي الذي يدعم الخبز، وتحويل مصر إلى مُصدر للغاز الطبيعي والاستثمار بكثافة في البنية التحتية والنقل، إلا أنه كجزء من الشروط المطلوبة لتلقي مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي منذ عام 2016، تراجع عن بعض إعانات الطاقة والغذاء، لكنه ترك برنامج الخبز كما هو.
وبينت أنه رغم أن البلاد تمتلك أحد أكبر موارد المياه في العالم، وهو نهر النيل، فإن حقوقها في ذلك محدودة بموجب اتفاقية تقاسم المياه لعام 1959 مع السودان المجاور.
وأشارت الصحيفة إلى أنه أواخر أبريل الماضي، تفقد السيسي منطقة توشكى بجنوبي غرب مصر، إيذانًا ببدء موسم حصاد القمح المحلي، لتقليص نسبة استيراد مصر من القمح إلى 25% مقارنة بنحو 62% حاليًا.
سقف الأسعار
وبالعودة إلى محاولات الحكومة لتقييد الأسعار، قالت "وول ستريت جورنال": في أحد الأحياء المتداعية بشمال القاهرة، كان عطية حمد، رئيس المخابز في الغرفة التجارية الحكومية بالقاهرة، مشغولًا بشكل خاص في الأسابيع الأخيرة، للتأكد من أن الأسعار لا تخرج عن السيطرة في كل خطوة على طريق إنتاج الخبز، بدءًا من دقيق القمح الذي يُباع للمخابز إلى المخبوزات التي تُباع للأكشاك والعملاء.
وقال حمد: الحكومة ستبقي سقوفًا لأسعار الخبز غير المدعوم إن كان ذلك ضروريًا، وكذلك ستبقي على أسعار الخبز المدعوم عند مستويات الأسعار الحالية، التي تقل عن سنت أمريكي واحد للرغيف.
وكشف أن السلطات قد تستبعد نحو 20 مليون شخص من نظام بطاقة الدعم الغذائي المطلوب لتلقي الخبز المدعوم، مشيرًا إلى أن وزارة التموين تفحص قواعد بياناتها، للتأكد من استيفاء المستفيدين لمعاييرها، من راتب أقل من 2500 جنيه مصري (135 دولارًا) شهريًا، إلى عدم امتلاك سيارة وعدم وجود أطفال مسجلين في مدارس دولية باهظة الثمن.
والعام الماضي، طرح الرئيس السيسي فكرة رفع سعر الخبز المدعوم، وقال في أغسطس 2021: "لا أستطيع توفير 20 رغيف خبز بتكلفة سيجارة واحدة"، وهي المرة الأولى التي يثير فيها زعيم مصري احتمال حدوث مثل هذه الزيادة، منذ أحداث الشغب عام 1977، حسب "وول ستريت جورنال".
لكن -حسب الصحيفة- احتج بعض المواطنين على ذلك، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلين إن الخبز خط أحمر ينبغي عدم المساس به، بينما أصدر أحد نواب البرلمان، فريدي البياضي، خطابًا مفتوحًا للسيسي يطلب منه إعادة النظر في الأمر.
وكتب البياضي في خطابه للرئيس: "الرغيف ليس مجرد طعام بل مسألة تتعلق بالأمن القومي"، مضيفًا: "إنها الوجبة الرئيسة وربما الوجبة الوحيدة لملايين المواطنين".