اللبنانيون أمام خيارين: إما التنازل عن مساءلة حكامهم وإما الفوضى
لسوء الحظ، فإن شبح الصراعات الطائفية والمخاوف من تجدد الحرب الأهلية، بعد الاشتباكات التي اندلعت في بيروت، يمكن أن يسرعا بإزاحة بيطار من منصبه، من خلال السماح لحكام البلاد بالقول إن التحقيقات الخاصة بانفجار الميناء، أسهمت في عدم استقرار بيروت،

ترجمات-السياق
أعادت الاشتباكات المسلحة، التي اندلعت بشكل مفاجئ الخميس الماضي، بين الميليشيات المتناحرة في بيروت، ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً، إذ أطلق القناصة، الجاثمون على أسطح المنازل، النار على المتظاهرين.
مسلحون ملثمون -بأسلحة آلية وقذائف صاروخية- ملأوا الشوارع فجأة، وأطفال منكمشون في أروقة مدارسهم، وضع أصاب الجميع بالذعر.
وقال مدير مركز هاكوب كيفوركيان، لدراسات الشرق الأدنى بجامعة نيويورك، محمد بازي، في مقال بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية: سرعان ما اتخذت المعركة الجارية في بيروت صبغة طائفية، حيث ألقى حزب الله، المدعوم من إيران، وحليفه الشيعي "حركة أمل" باللوم على حزب القوات اللبنانية، المسيحي اليميني، في تحريضه على القتال باستخدام القناصة، مشيرًا إلى أن هذه المجموعات الثلاث، لعبت دورًا رئيسًا في الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1990.
أمراء الحرب
يرى الكاتب، أن هذه ليست التشابهات الوحيدة، بين الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي، والحرب الأهلية في لبنان، مشيراً إلى أن أحد الموروثات الأساسية لهذه الحرب، ارتباطها بالعفو العام الذي سمح للميليشيات وأمراء الحرب في لبنان، بالتهرب من المسؤولية عن جرائمهم، وتقسيم المناصب في المؤسسات العامة، وتوسيع شبكات المحسوبية الخاصة بهم.
ويقول إن هذا الأمر أوجد ثقافة الإفلات من العقاب، لدى النخبة السياسية في لبنان، إذ إنه لا يزال القادة والأحزاب أنفسهم يحتفظون بالسلطة، بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الأهلية، حيث تمكنوا من التصدي لكل تحدٍ لسلطتهم، وذلك غالبًا عن طريق تأجيج الطائفية وشبح تجدد القتال.
ثلاث أزمات لبنانية
تأتي الاشتباكات الأخيرة، في الوقت الذي تنهار فيه الدولة اللبنانية، في ظل معاناتها من ثلاث أزمات مرتبطة ببعضها: أولًا: الانهيار الاقتصادي، الذي قال البنك الدولي إنه قد يكون من أشد ثلاث أزمات اقتصادية في العالم، منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثانيًا: الشلل السياسي في الوقت الذي تواصل فيه الأحزاب الطائفية في البلاد القتال، للحصول على غنائم النظام المفلس، وأخيرًا: تعطيل إجراءات التحقيق في الانفجار الهائل، الذي وقع في مرفأ بيروت، أغسطس 2020، وأودى بحياة أكثر من 200 شخص وألحق أضرارًا بمليارات الدولارات، وفقًا للكاتب.
وأشار الكاتب إلى أنه منذ عام 2019، فقدت العملة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، ما أدى إلى معدل تضخم كبير للغاية، ونقص النقد الأجنبي، في بلد يعتمد على الواردات.
ففي الصيف، اصطف اللبنانيون في طوابير ساعات طويلة لشراء الوقود، ما تسبب في اختناقات مرورية هائلة، وأحيانًا معارك مميتة في محطات الوقود.
وفي يونيو الماضي، وجدت منظمة اليونيسف، أن 77% من الأسر اللبنانية ليس لديها ما يكفي من المال لشراء الطعام، كما أن شبكة الكهرباء اللبنانية اضطرت إلى الإغلاق، بعد نفاد الوقود في محطتين رئيستين.
طارق بيطار
رغم الاحتجاجات المتقطعة بسبب الانهيار الاقتصادي، فإن أكبر تهديد للنخبة السياسية، هو القاضي طارق بيطار، الذي يحقق في سبب تجاهل كبار المسؤولين اللبنانيين التحذيرات، على مدى سنوات، من تخزين 2750 طنًا من نترات الأمنيوم، بشكل غير صحيح في مستودع بميناء بيروت، إلى أن تسبب المخزون في واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، وفقًا للكاتب.
ولفت الكاتب، إلى أن بيطار حاول، من دون جدوى، استجواب رئيس الوزراء اللبناني السابق حسان دياب، الذي استقال مع حكومته، بعد أسبوع من كارثة الميناء، كما طلب بعد ذلك من البرلمان، رفع الحصانة عن ثلاثة نواب، خدموا في الحكومات السابقة، هم وزير المالية علي حسن خليل، ووزير الداخلية نهاد المشنوق ووزير النقل غازي زعيتر، كما يريد القاضي استجواب اثنين من أقوى قادة الأمن في البلاد، هما مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ورئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا.
العفو والنسيان
ويرى الكاتب أنه من خلال استهدافه لأعضاء النخبة السياسية في البلاد، فإن بيطار يشكل تهديدًا غير مسبوق، لنظام ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، المبني على العفو والنسيان، إذ إنه يسعى إلى المساءلة، في بلد يعاني التدخلات السياسية التي تقوِّض النظام القضائي.
وأضاف بازي، أن معظم الأحزاب الطائفية اللبنانية، سعت لتقويض جهود القاضي وتحقيقاته، إذ صعَّد قام قادة حزب الله، خلال الأسابيع القليلة الماضية، انتقاداتهم لبيطار، كما دعوا إلى إقالته.
ولكن لسوء الحظ، فإن شبح الصراعات الطائفية والمخاوف من تجدد الحرب الأهلية، بعد الاشتباكات التي اندلعت في بيروت، يمكن أن يسرعا بإزاحة بيطار من منصبه، من خلال السماح لحكام البلاد بالقول إن التحقيقات الخاصة بانفجار الميناء، أسهمت في عدم استقرار بيروت، وصرف الانتباه عن حل أزمات لبنان.
وتابع: " أحبطت النخبة الحاكمة معظم الإصلاحات الضرورية، إذ يرفض القادة اللبنانيون تلبية المطالب الغربية، بالاهتمام بالإصلاح الاقتصادي، والالتزام بالشفافية في البنك المركزي اللبناني الغامض، الذي ساعدت سياساته في الانهيار الاقتصادي".
صراع شامل
ويرى بازي، أن اللبنانيين أمام خيارين، من قبل الأحزاب الحاكمة وأمراء الحرب السابقين الذين دمروا بلدهم، إما أن ينسوا المساءلة عن انفجار الميناء، وإما أن يخاطروا باندلاع صراع شامل في الشوارع، معتبرًا أن ذلك كان الخيار الخاطئ المتاح لبيروت، منذ نهاية الحرب الأهلية، قائلًا: "رغم أن اللبنانيين اختاروا التنازل عن المساءلة قبل ثلاثة عقود، فإن حُكامهم مازالوا يفشلون في توفير الاستقرار لهم أيضًا".