عمليات الراية الكاذبة.. وتاريخ روسيا في افتعال الحروب

لم تكن الادعاءات الأخيرة، التي صدرت من الحكومات الغربية بشأن عملية الراية الكاذبة، والمساعي الروسية لتنصيب زعيم موالٍ لها في أوكرانيا، مفاجئة عندما ننظر إليها من منظور تاريخي، لقد كانت هذه التحركات استراتيجيات مدروسة من الكرملين أثناء الحرب الباردة، يعرفها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين تمام المعرفة

عمليات الراية الكاذبة.. وتاريخ روسيا في افتعال الحروب
العملاء الروس يخططون لواحدة من عمليات الراية الكاذبة، بإحداث ذريعة للتدخل العسكري في أوكرانيا

ترجمات - السياق

مع تصاعد التوترات بين أوكرانيا وروسيا خلال الأسابيع الماضية، حذرت وزارة الدفاع الأمريكية، من أن العملاء الروس يخططون لواحدة من عمليات الراية الكاذبة، بإحداث ذريعة للتدخل العسكري في أوكرانيا، بينما أعقب هذا التحذير إعلان من وزارة الخارجية البريطانية، يزعم أن الكرملين يخطط لتنصيب زعيم مطيع موالٍ لروسيا في أوكرانيا.

وسلَّطت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، الضوء على ما سمته "التخصص الروسي في عمليات الخداع والرايات الكاذبة التي تستخدمها روسيا، ومن قبلها الاتحاد السوفييتي، لتبرير التدخل في دول أخرى لتنصيب مستبدين موالين لها"، مستشهدة بعدد من النماذج التاريخية على ذلك.

وقالت المجلة، في تقرير، إن أوكرانيا لن تكون أول بلد يدق فيه جيش روسيا طبول الحرب، من خلال عمليات خادعة لتبرير التدخل، الذي يعرف بالراية الكاذبة".

مؤامرة روسية

وذكرت "فورين بوليسي" أن ما سمتها المؤامرات الروسية، لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما بعد عملية (الراية الكاذبة) بأسبوع واحد، نشر مسؤولو المخابرات الأمريكية تفاصيل مؤامرة روسية أخرى، لتصوير فيديو مختلق يتخذه الروس ذريعة لشن هجوم على أوكرانيا.

وعلى ما يبدو كان هذا الفيديو يتضمن تفجيرات مدبرة مع جثث لقتلى جراء التفجيرات، وممثلين ومعزين لتبرير التدخل الروسي، وفي خضم التهديدات بشن الحرب وانتشار ضباب الحرب في الأجواء، كان من الصعب على المراقبين، لا سيما الحكومات، إدراك ما يحدث بعد ذلك في أوكرانيا، وانتشرت الشائعات، وأخذت التوترات تتصاعد يومًا بعد يوم، بل على مدار الساعة.

ومع ذلك -تضيف المجلة- "لم تكن الادعاءات الأخيرة، التي صدرت من الحكومات الغربية بشأن عملية الراية الكاذبة، والمساعي الروسية لتنصيب زعيم موالٍ لها في أوكرانيا، مفاجئة عندما ننظر إليها من منظور تاريخي، لقد كانت هذه التحركات استراتيجيات مدروسة من الكرملين أثناء الحرب الباردة، يعرفها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين تمام المعرفة، وهو محارب قديم شارك في الحرب الباردة، وضابط سابق في الاستخبارات السوفيتية"، موضحة أن فهم هذا التاريخ يوضح لنا أسباب ما نراه يتكشف الآن.

وبالعودة إلى التاريخ، أوضحت المجلة، أنه عام 1968، استخدم الكرملين جهازه الاستخباراتي لافتعال حوادث رايات كاذبة، لتبرير التدخل العسكري السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا، التي كان زعيمها الجديد آنذاك، ألكسندر دوبتشيك، البالغ من العمر 46 عامًا، يحاول بناء بلاده من خلال إصلاح اجتماعي ديمقراطي، وإيجاد اشتراكية ذات وجه إنساني، إذ بلغت الاحتفالات العفوية -من جانب الدعم الشعبي لهذه الإصلاحات- ذروتها، خلال موكب عيد العمال في براغ ذلك العام، حيث حمل المتظاهرون لافتات عليها "يعيش الاتحاد السوفييتي، ولكن على حسابه الخاص".

وأضافت "فورين بوليسي": "لكن في المقابل، داخل الكرملين، بدت إصلاحات دوبتشيك كأنها تهديد لنسيج الكتلة السوفيتية"، مشيرة إلى أن الأرشيف التابع للاستخبارات الروسية، المصنف على درجة كبيرة من السرية، يكشف أن الزعيم السوفييتي في ذلك الوقت، ليونيد بريجنيف، ورئيس جهاز الاستخبارات الروسية، يوري أندروبوف، استخدما عملاء سريين تابعين لجهاز الاستخبارات الروسي، لتلفيق حوادث لإيجاد مبررات لإرسال الجيش الأحمر، وسحق إصلاحات دوبتشيك، وتنصيب زعيم موالٍ للكرملين في تشيكوسلوفاكيا.

عملية التقدم

وأشارت المجلة الأمريكية، إلى أنه في جزء مما أطلِق عليها (عملية التقدم)، التي جرى الكشف عنها من خلال وثائق مهربة من أرشيف جهاز الاستخبارات الروسية إلى الغرب، أمر أندروبوف بنشر 20 شخصًا من عملاء الاستخبارات الروسية غير القانونيين في تشيكوسلوفاكيا، وكان هؤلاء الأشخاص ضباطًا استخباراتيين لا يعملون تحت غطاء دبلوماسي سوفييتي (قانوني).

وحسب "فورين بوليسي" فاق عدد هؤلاء الضباط غير القانونيين، الذين نشرهم أندروبوف في تشيكوسلوفاكيا، عدد أي ضباط آخرين جرى نشرهم في أي دولة غربية في وقت قصير جدًا كهذا، مشيرة إلى أن هؤلاء الضباط تظاهروا بأنهم صحفيون ورجال أعمال وطلاب غربيون، في تشيكوسلوفاكيا والدول المجاورة، بينما كانت مهمتهم التجسس على الغربيين هناك، والقيام بعمل سري لتبرير التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا.

وأمام هذه التدخلات -تضيف "فورين بوليسي"- توغل الجيش الأحمر السوفييتي وحلفاؤه الموثوق بهم في حلف وارسو في أغسطس 1968، في براغ لاستعادة ما سموها (العقيدة السوفيتية)، إذ كان ذلك أكبر عمل مسلح في أوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وبذلك، أجبر دوبتشيك على الاستقالة ونُقل إلى موسكو، وبعد ذلك، وضع الزعيم السوفييتي استراتيجية سوفيتية كبرى، باسم «عقيدة بريجنيف»، تمنحه الحق بالتدخل في البلدان التي تتعرَّض فيها «الاشتراكية» للتهديد.

وأشارت المجلة الأمريكية، إلى أن الأمر لم يتوقف عند تشيكوسلوفاكيا، بل إن التدخلات العسكرية السوفيتية الرئيسة ومنها: (المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وأفغانستان عام 1979)، كانت مصحوبة بعمليات خداع سوفيتية، بما في ذلك عمليات رايات كاذبة.

تبريرات بوتين

وقالت "فورين بوليسي": استراتيجية بوتين الكبرى، تتمثل في إعادة الاتحاد السوفييتي، لتصبح روسيا العظمى مرة أخرى، وبصفته ضابطًا سابقًا في الاستخبارات السوفيتية، يدرك بوتين تاريخ الاستخبارات السوفيتية.

وأوضحت أن أندروبوف، الذي كانت استراتيجيته تتمثل في الجمع بين القوة العسكرية والخداع، هو المعلم الأول لبوتين، وبذلك فإن الأخير يحاول تطبيق ما كان يفعله أستاذه.

وأضافت: "في كرملين بوتين اليوم، نجد أن الأنواع السابقة من الـ«كيه جي بي» وأولئك الذين لديهم خلفيات في أجهزة الاستخبارات والجيش الروسي ما بعد الاتحاد السوفييتي «رجال القوة» الذين يتمتعون بنفوذ لا يُضاهى، إذ تشير تصرفات بوتين الأخيرة، إلى أنه يبتكر عقيدة بريجنيف من جديد، ما يمنحه الحق في التدخل لتنصيب مستبدين موالين له، في دول خارجية قريبة من روسيا، فلقد تدخل في كازاخستان، ولديه زعيم مطيع في بيلاروسيا، وبذلك ستكون أوكرانيا الخطوة المنطقية المقبلة".

وختمت "فورين بوليسي" تقريرها: "روسيا بوتين، ليست ببساطة الجزء الثاني من الاتحاد السوفييتي، وقبل كل شيء، نجد أن نظامه دولة مافيا كليبتوقراطية، تدمج التقاليد القديمة الانتقامية بالتقاليد القومية الروسية الاستبدادية الجديدة، ومن ثم فإنه كلما زاد ما يمكن القيام به لفضح حقيقته القبيحة، كان ذلك أفضل للروس والأوكرانيين والعالم".