الصين هي البديل... هل انتهى الدعم الأمريكي لأوروبا؟
اتهم كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة بالتربح من الحرب، ومن المصاعب التي تواجهها أوروبا، إذ إنها لا تجني فوائد تحول أوروبا إلى الغاز الطبيعي الأمريكي فحسب، بل إنها أيضًا المستفيد الرئيس من إعادة تسليح أوروبا

ترجمات – السياق
في ظِل حكم الرئيس جو بايدن، تنتهج الولايات المتحدة، سياسة اقتصادية انعزالية، وسياسة خارجية "خرقاء"، تتعارضان مع المصالح الحيوية لأوروبا، وهو ما يبعد واشنطن عن مساعدة حليفتها، في ظل الحرب الدائرة بأوكرانيا منذ أكثر من عام، حسب وصف المحلل السياسي توماس فازي بموقع آنهيرد البريطاني.
فقبل 75 عامًا، وُضع حجر الأساس للعلاقة عبر الأطلسي، وبعد توقيع خطة مارشال لتصبح قانونًا، من قِبل الرئيس الأمريكي هاري ترومان، استمرت الولايات المتحدة في إرسال مليارات الدولارات كمساعدات اقتصادية، للمساهمة في إعادة بناء أوروبا الغربية، بعد الحرب العالمية الثانية، ما وضع الأساس لتحالف شمال الأطلسي المفيد للطرفين، الذي قدم لأوروبا عقودًا من الازدهار الاقتصادي والأمن العسكري.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما خرج ترومان ليعلن، أن الولايات المتحدة ستكون "أول أمة عظيمة تُطعم وتدعم المحتل".
خطة مارشال
ويقول فازي: "اليوم... لم يعد عالم ترومان موجودًا، ومن ثمّ فإن التناقض بين خطة مارشال ونهج الولايات المتحدة تجاه أوروبا يثير الجدل".
وأشار إلى أنه ربما لا يزال يُنظر إلى خطة مارشال على أنها إحدى ركائز الأساطير الأمريكية في ما بعد الحرب.
ونوه الكاتب إلى أنه رغم السخاء المرتبط عادةً ببرنامج التعافي الأوروبي، كما كان يُطلق عليه، بين عامي 1948 و1951، بلغت الأموال قرابة 3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المتلقية، ما يُمثل زيادة مباشرة في الناتج المحلي الإجمالي بنمو أقل من 0.5%.
لكن بعض المؤرخين يرون أن خطة مارشال يعود إليها الفضل في "تأثير غير مباشر أكبر بكثير في الانتعاش الاقتصادي لهذه الدول، من خلال تعزيز بيئة الاقتصاد المواتية للنمو".
بشكل عام، كانت مساهمات الخطة في انتعاش أوروبا متواضعة نسبيًا، حيث تدفق كثير من الأموال أيضًا إلى الولايات المتحدة في شكل مشتريات للسلع والخدمات الأمريكية، بما في ذلك النفط، وتوافر عديد من المواد والمعدات المستخدمة لإعادة بناء أوروبا من قِبل الشركات الأمريكية، ما أدى إلى فرص عمل وأرباح للشركات الأمريكية.
وحسب الكاتب، فإنه بصرف النظر عن التأثير الاقتصادي لخطة مارشال، ليس هناك شك في أنها كانت نجاحًا سياسيًا مدويًا لأمريكا، إلى الحد الذي ضمن النفوذ والسيطرة الجيوسياسية للولايات المتحدة على أوروبا الغربية.
وأوضح أنه يمكن القول إن القناة الأكثر أهمية، التي عززت خطة مارشال من خلالها نفوذ الولايات المتحدة، تمثلت في الأموال التي وجهتها إلى أحزاب يمين الوسط الأوروبية، التي استفادت من الاندماج في الإمبراطورية الأمريكية الناشئة.
وشمل ذلك الأموال السرية لوكالة المخابرات المركزية لضمان نجاحها الانتخابي -خاصة في إيطاليا وفرنسا- على حساب المنافسين الشيوعيين.
وهو ما أوضحته المؤرخة سالي بيساني في كتابها "وكالة المخابرات المركزية وخطة مارشال"، بأنه تحت ستار خطة مارشال، استخدمت الولايات المتحدة "مساعدات خارجية ضخمة وعمليات سرية غير عسكرية لإعادة تشكيل أوروبا التي مزقتها الحرب بالصورة التي تريدها".
"الناتو"
بالقدر نفسه من الأهمية -يضيف فأزي- كانت خطة مارشال أيضًا حافزًا رئيسًا لتشكيل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي من خلاله فرضت الولايات المتحدة سيطرتها العسكرية على أوروبا الغربية، إضافة إلى عشرات القواعد العسكرية، خاصة في الدول المهزومة، التي لا يزال كثير منها موجودًا حتى اليوم.
لعبت خطة مارشال –أيضًا- دورًا مهمًا في تعزيز التكامل الأوروبي، من خلال إنشاء مؤسسات حكومية دولية جديدة لإدارة وتنسيق البرامج بين الجانبين.
وشمل ذلك منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي كانت مُقدمة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والأهم من ذلك خطة شومان، التي أعلنها وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان في مايو 1950 واستهدفت تفادي احتمال نشوب حرب أوروبية جديدة، وتضمنت وضع الإنتاج الفرنسي والألماني للفحم والصلب تحت سلطة عليا مشتركة.
شمل ذلك –أيضًا- الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ثم الاتحاد الأوروبي، نهاية المطاف.
ولعب الأمريكيون أيضًا دورًا حاسمًا في الترويج لقضية الفيدرالية الأوروبية، من الناحية المالية، من خلال اللجنة الأمريكية لأوروبا الموحدة (إيه سي يو إي)، التي تأسست عام 1948، وكان أول رئيس لها الرئيس السابق لمكتب الخدمات الاستراتيجية (أو إس إس) ويليام جوزيف دونوفان، بينما كان نائب الرئيس ألين ويلش دالاس، الذي أصبح في ما بعد رئيس وكالة المخابرات المركزية.
الإمبريالية الخيرية
ووصف فازي، خطة مارشال بأنها "تجسد أحد أشكال الإمبريالية الخيرية"، التي من خلالها سيطرت الولايات المتحدة على أوروبا الغربية وعززت مكانتها كقوة عظمى عالمية.
أمام ذلك -يضيف الكاتب- "من الواضح أن أوروبا استفادت من غنائم الامبراطورية، حتى لو كانت في موقع ثانوي".
اليوم لم يعد هذا الأمر موجودًا، فمن الناحية الاقتصادية، شهدت أوروبا -خلال الأشهر الستة الماضية- انخفاضًا هائلاً في الإنتاج الصناعي، بينما اضطرت الحكومات إلى دفع فاتورة طاقة بـ 800 مليار يورو نتيجة لقرارها باتباع استراتيجية الولايات المتحدة في أوكرانيا.
واندلعت أعمال شغب في فرنسا، وسط احتمالات قوية إلى أنها قد تنتقل إلى دول أوروبية أخرى في القريب العاجل.
فقد أظهر استطلاع للرأي على مستوى أوروبا في أكتوبر الماضي، أن أغلبية الناخبين في أكبر أربع دول أوروبية، توقعوا اضطرابات اجتماعية واحتجاجات عامة في الأشهر المقبلة، لارتفاع تكاليف المعيشة.
في الوقت نفسه، اتهم كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة بالتربح من الحرب، ومن المصاعب التي تواجهها أوروبا، إذ إنها لا تجني فوائد تحول أوروبا إلى الغاز الطبيعي الأمريكي فحسب، بل إنها أيضًا المستفيد الرئيس من إعادة تسليح أوروبا.
علاوة على ذلك، كان الغضب يتصاعد أيضًا في أوروبا بشأن قانون خفض التضخم الأمريكي، وهو حزمة بـ 369 مليار دولار من الإعانات والإعفاءات الضريبية، التي سنتها إدارة بايدن لتعزيز التصنيع الأمريكي تحت ستار "التحول الأخضر".
ووصف فازي، قانون خفض التضخم الأمريكي، بأنه خطة مارشال جديدة، لكنه من نوع مختلف، إذ إنه موجه إلى الولايات المتحدة وليس أوروبا.
لكن من منظور أوروبي، يُشكل مشروع القانون إجراءً حمائيًا يُشجع الشركات على تحويل الاستثمارات من أوروبا ويحفز العملاء على "شراء المنتجات الأمريكية"، ما يوجه ضربة خطيرة للصناعة الأوروبية المتعثرة.
وفي ذلك، قال رئيس إمبريال كوليدغ لندن هيو برادي إن قانون خفض التضخم الأمريكي يُمثل "تهديدًا وجوديًا" للاقتصادات الأوروبية.
حتى المستشار جيريمي هانت وزير الخزانة البريطاني، غير المعروف بانتقاده للسياسات الأمريكية، انتقد -الأسبوع الماضي- خطة بايدن الاستثمارية ووصفها بأنها "مشوهة بشكل كبير".
ورغم أن الكاتب يرى أن هذه المخاوف مبالغ فيها، فإنها تسلط الضوء على التنافر المعرفي لمعظم أعضاء المؤسسة الأوروبية، فمن ناحية يضطرون باستمرار إلى تكرار العبارات المبتذلة عن الوحدة والعزم الغربيين، ومن ناحية أخرى، بدأوا يدركون ببطء أن الولايات المتحدة تلعب لعبتها الخاصة، ولا تشمل أوروبا، التي لم يعد يُنظر إليها على أنها حليف استراتيجي، لكن كمنافس وخصم.
من الناحية الأمنية -حسب الكاتب- لا تبدو الأمور أفضل بكثير بالنسبة لأوروبا، التي تبدو أكثر عرضة للخطر مما كانت عليه منذ عقود.
فمع تزايد احتمال مواجهة مباشرة بين "الناتو" وروسيا، فإن ما كان مظلة أمنية، يبدو كأنه هدف كبير.
ولكن، من وجهة النظر الأمريكية، كان الصراع فرصة لإعادة تأكيد هيمنتها المتضائلة على أوروبا، أولاً وقبل كل شيء من خلال تجديد وتوسيع "الناتو"، الذي كان يمر بأزمة وجودية قبل الصراع.
فطالما كان دق إسفين بين أوروبا (ألمانيا على وجه الخصوص) وروسيا، ومنع ظهور الواقع الجيوسياسي الأوروآسيوي، ضرورة جيوسياسية أمريكية.
ومن ثمّ لا عجب أن هناك من يعتقد أن الولايات المتحدة كانت وراء تفجير خط أنابيب نورد ستريم، الذي تسبب في قطع العلاقات الروسية الألمانية.
نهاية خطة مارشال
عن الأسباب التي تجعل أوروبا مرتبطة بالولايات المتحدة، خاصة في ما يتعلق بإعادة الاصطفاف الجيوسياسي، أشار الكاتب إلى أن الصراع في أوكرانيا، أدى إلى تسريع صعود نظام دولي جديد، تفقد فيه الهيمنة الأمريكية جاذبيتها.
وذكر أن تصرفات الولايات المتحدة في أوكرانيا، دفعت أكبر خصمين لها، روسيا والصين -إلى جانب الهند والمملكة العربية السعودية وتركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وعشرات الدول التي تضم معظم سكان العالم- لتأسيس كتلة تجارية ديناميكية كبرى خاصة بها، ليست الولايات المتحدة جزءًا منها.
ففي الأيام الماضية فقط، منح حدثان مهمان مزيدًا من الزخم لهذا الاتجاه، فقد توصلت البرازيل والصين إلى اتفاق للتجارة باستخدام عملتيهما بدلاً من الدولار الأمريكي، بينما أكملت شركة النفط الوطنية الصينية وتوتال إنرغيز الفرنسية، تسوية أول تجارة للغاز الطبيعي المسال في الصين باليوان.
كل ذلك، يشير -وفق الكاتب- إلى العزلة المتزايدة للولايات المتحدة عن العالم، والتراجع الكبير في نفوذها وقدرتها على استخراج الموارد، التي يمكنها بعد ذلك توزيعها على دول الحماية الخاصة بها.
بعبارة أخرى، انتهت خطة مارشال الأمريكية، وبدلًا منها، تأمل الصين أن تصبح مبادرة الحزام والطريق، المحرك الاقتصادي الجديد لكتلة ما بعد الغرب.
ورغم تشكيك غربيين كثيرين في أهداف مبادرة الحزام والطريق، فإن ذلك لم يمنع 147 دولة -منها 18 في الاتحاد الأوروب - من توقيع وعدها بربط آسيا مع العالم، من خلال البنية التحتية والاستثمارات والتجارة.
ويضيف فازي: "ربما لم يعد عالم ترومان موجودًا، إلا أن ذلك لا يعني أن الصين لا تستطيع إعادة إنشائه"، في إشارة إلى أن نفوذ بكين قد يحل محل الولايات المتحدة في أوروبا.