بعد البالون... حرب جديدة بين الولايات المتحدة والصين في الفضاء
خلال الحرب الباردة، جرب الجيش الأمريكي ووكالات الاستخبارات بالونات لإجراء المراقبة

ترجمات -السياق
خلال الحرب الباردة، خشي الاستراتيجيون الأمريكيون أن يتفوق الاتحاد السوفييتي على الولايات المتحدة في صناعة الأسلحة، ما قد يؤدي إلى ما تسمى فجوة الصواريخ، لكن اليوم، القلق الفعلي يأتي من فجوة يُطلق عليها "الفضاء القريب" وتصاعد وجود الصين فيها، بحسب "نيويورك تايمز".
يأتي القلق الأمريكي -وفق الصحيفة- من أن الصين قطعت شوطًا طويلًا في تطوير التكنولوجيا العسكرية، التي تعمل في منطقة الارتفاعات العالية غير المنظمة "للفضاء القريب".
وأوضحت الصحيفة أنه على ارتفاع عالٍ فوق الأرض، وتحت الأقمار الاصطناعية التي تسبح في مدارات، تختبر الولايات المتحدة والصين أنظمة دفاع جديد، ويكشف الواقع استغلال بكين المنطقة بطائرات وذخائر متطورة وحجم تقدم كبير على منافستها العظمى بطرق مهمة.
وترى أن هذه المنافسة الاستراتيجية غير المعروفة وغير المرئية حول الفضاء القريب، وهي العبارة التي ظهرت فجأة على لسان كل سياسي وصانع سياسات أمريكي، لها أهمية متزايدة في شحذ الحروب المتقدمة وأنواع معينة من التجسس.
الفضاء القريب
وفي ما يخص مصطلح "الفضاء القريب"، بينت "نيويورك تايمز" أن الفضاء القريب هو الفضاء المحدود، وهو عالم سفلي في الستراتوسفير -الغلاف الجوي الطبقي- حيث لا ينطبق أي قانون دولي ولا توجد قوة عسكرية تهيمن، ومن ثمّ تطير الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، وطائرات الفضاء وتنجرف بالونات المراقبة من دون أن تلتقطها الرادارات.
وأشارت الصحيفة إلى أن الجيش الصيني، الذي فاجأ الولايات المتحدة باستخدام الصواريخ والبالونات، التي تفوق سرعة الصوت، ركز خلال سنوات عدة على تطوير القدرات في الفضاء القريب، الذي يُعتقد أنه يتراوح بين 60 ألفًا و330 ألف قدم فوق الأرض -أو 11 إلى 62 ميلاً- حيث لا تطير طائرات مدنية.
أمام ذلك، يُحذر القادة العسكريون وصُناع السياسة والمشرعون الأمريكيون، من أن الصين ربما تفوقت عليهم في التفكير الاستراتيجي بشأن تلك المنطقة، وفي نشر آلاتها الحديثة هناك، ومن ثمّ فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى معالجة القضايا التي تلوح بالأفق في هذه المنطقة بأسرع وقت ممكن.
ففي خطاب ألقاه الخميس عن الحلقات المزعجة، التي تنطوي على منطاد تجسس وثلاثة أجسام متطايرة غير محددة (لكن من المحتمل أن تكون غير ضارة)، قال الرئيس الأمريكي بايدن إنه طلب من وزير الخارجية أنتوني بلينكين، العمل على وضع "معايير عالمية مشتركة في هذا الفضاء غير المنظم إلى حد كبير".
وشدد بايدن على أن "هذه الخطوات ستؤدي إلى أجواء أكثر أمنًا وأمانًا لمسافرينا الجويين وجيشنا وعلمائنا وللناس على الأرض أيضًا".
وقال إن ذلك سيصبح أكثر إلحاحًا، مع تنافس القوى العظمى على موطئ قدم، في المناطق الرمادية على ارتفاعات عالية.
وتعليقًا على ذلك، نقلت عن ماثيو بوتينغر، نائب مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مستخدمًا وصفًا لبرنامج بالون التجسس الصيني، قوله: "يجب أن نأخذ برنامج بكين ريد زيبلين على محمل الجد".
وأضاف: "لقد كتب الجيش الصيني عن مجموعة من التطبيقات المحتملة للبالونات والطائرات من دون طيار في الفضاء القريب"، متابعًا: "تستطيع اعتراض الاتصالات التي لا يمكنك التقاطها من الفضاء، وبإمكانك التسكع فترات أطول من الوقت فوق الأهداف، أو الدراسة أو التدخل في رادار العدو، واستهداف الأقمار الاصطناعية للعدو والمساعدة في توجيه الأسلحة الاستراتيجية".
وقد حذر باحثون عسكريون صينيون -في السنوات الأخيرة- من ضرورة منع الولايات المتحدة من تحقيق التفوق في الفضاء القريب، فعام 2018، نشرت "ليبريشين آرمي ديلي"، الصحيفة الرسمية للجيش الصيني، مقالًا جاء فيه: "أصبح الفضاء القريب ساحة معركة جديدة في الحرب الحديثة".
وقالت الصحيفة نفسها عام 2020: "هناك دول تُسرع وتيرة أبحاث أسلحة الفضاء القريب"، مضيفة أن مناطيد الفضاء القريب "لا تقيدها ميكانيكـًا المدارات، ولا تحتاج إلى مرافق إطلاق سطحية باهظة الثمن".
أمام ذلك، أوضح باحثون عسكريون صينيون، أن المناطيد يمكن أن تكون بديلًا محتملًا للأقمار الاصطناعية، خصوصًا إذا تعرضت هذه الأقمار -خلال الحرب- لأي استهداف.
تجارب صينية
وحسب "نيويورك تايمز" جربت الصين -العام الماضي- استخدام الصواريخ لإرسال بالونات تصل إلى 25 ميلًا فوق سطح الأرض.
ونقلت الصحيفة عن جون كولفر، المحلل الاستخباراتي الأمريكي السابق في الصين، قوله إن وحدة من الجيش الصيني تدعى "قوة الدعم الاستراتيجي" تُشرف على الأرجح على برامج الفضاء القريب، وهي مسؤولة أمام اللجنة العسكرية المركزية، التي يرأسها شي جين بينغ الرئيس الصيني، ومساوية للفروع الأخرى للجيش.
وتشرف الوحدة أيضًا على البرامج الفضائية وجمع المعلومات الاستخبارية للاتصالات والعمليات الإلكترونية.
لكن، بينما يتحدث المسؤولون العسكريون الصينيون بقلق عن التوسع الأمريكي في الفضاء القريب، فإن الحكومة الأمريكية لم تهتم كثيرًا بتلك المنطقة، وفقًا لمسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين.
ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الوكالات العسكرية والاستخباراتية استخدمت الميزانيات المتعلقة بالفضاء، لنشر الأصول في الفضاء الخارجي البعيد، فعديد من أقمار المراقبة الحكومية الأمريكية تدور حول العالم.
والنتيجة -كما يقول المسؤولون الحاليون والسابقون- أن الولايات المتحدة تفتقر إلى جمع المعلومات الاستخباراتية والقدرات الدفاعية في الفضاء القريب.
ونقلت الصحيفة عن الأدميرال ويليام إي جورتني، وهو قائد متقاعد من القيادة الشمالية الأمريكية وقيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية، قوله: "نحن نعرف كيف نكتشفها (المناطيد الصينية) وكيف نتتبعها وكيف نصطادها".
وأضاف الأدميرال، وهو طيار مقاتل سابق في البحرية تولى قيادة المقاتلة إف/إيه-18 هورنت: "سنذهب إلى إيجاد طبقاتنا وأين يقيم العدو داخل تلك اللحامات مهما كلف الأمر".
بينما كشف مسؤولون أمريكيون، أن تقريرًا سريًا للمخابرات الأمريكية، أرسل إلى الكونغرس، الشهر الماضي، أشار إلى أن الجيش رصد أجسامًا طائرة مجهولة الهوية على ارتفاعات كثيرة، بما في ذلك ربما في الفضاء القريب.
أمام ذلك، اقترح بعض المشرعين ضرورة تسليط الضوء على الفضاء القريب، وربما الحصول على مزيد من ميزانية الدفاع لهذه الجهود.
وقالت السناتور كيرستن جيليبراند، وهي ديمقراطية من نيويورك في لجنة القوات المسلحة: "من الضروري أن نوفر للمجتمع العسكري والاستخباراتي الموارد اللازمة لاكتشاف الأجسام في الفضاء القريب ومراقبتها".
وترى الصحيفة الأمريكية، أن ارتفاعات الفضاء القريب تعد مثالية لبعض الأنظمة العسكرية، وهي التي يبدو أن للصين اليد العليا في ابتكارها.
ونقلت عن مارك جيه لويس، كبير العلماء السابق في سلاح الجو الأمريكي، قوله: إن بالون "التجسس" الصيني الذي يبلغ ارتفاعه 200 قدم، كان يعمل في المكان المثالي لبالونات المراقبة، حيث كانت الارتفاعات الأعلى تتطلب منطادًا أكبر وأثقل بكثير، حتى لا تقصفه رياح الغلاف الجوي.
ويقول مسؤولون أمريكيون إنه حتى عند الارتفاع المنجرف لمنطاد التجسس البالغ 60 ألف قدم، كانت الرياح مشكلة، ويبدو أنها حادت عن أهدافها المقصودة بالقواعد العسكرية الأمريكية في غوام وهاواي.
بالونات مراقبة
وبينت "نيويورك تايمز" أنه خلال الحرب الباردة، جرب الجيش الأمريكي ووكالات الاستخبارات بالونات لإجراء المراقبة، مشيرة إلى تصميم منطاد كجزء من مشروع "موغول"، ليطير عاليًا ويبحث لمسافات طويلة عن ارتدادات ضعيفة بعد اختبار نووي.
يذكر أن مشروع موغول، كان سريًا للغاية بواسطة القوات الجوية للجيش الأمريكي، يتضمن ميكروفونات تحملها مناطيد عالية الارتفاع، وكان هدفها التجسس علي السوفييت والتنصت عليهم بمراقبة الموجات الصوتية، التي تحدث بسبب انفجار القنابل النووية.
ونوهت الصحيفة إلى أنه "عندما تحطم أحد البالونات بالقرب من روزويل، إحدى مدن ولاية نيومكسيكو في الولايات المتحدة، شكت الحكومة حينها من أن وراء تحطيمه أيدي أجنبية".
وأشارت إلى أن الجيش الأمريكي بدأ التفكير في استخدام البالون للأغراض المخابراتية، منذ نحو عقدين، متسائلاً عما إذا كان بإمكان العلم الحديث تحويل أداة عرضية للحرب الباردة إلى جهاز جمع أكثر فاعلية.
وفي ذلك، يرجع العالم مارك جيه لويس، بدء الاهتمام الأمريكي بالبالونات، إلى أنها منخفضة التكلفة، ويمكن أن تتسكع فوق منطقة فترة أطول من القمر الاصطناعي، لكن ما أخر الاعتماد عليها، أن إضافة أنظمة الدفع التي يمكنها مواجهة التأثيرات الجوية تُثقل كاهلها وتقلل حركتها.
بينما تعمل الذخائر التي تفوق سرعة الصوت -وهي نوع جديد ومتطور من الأسلحة التي تطورها الجيوش الصينية والروسية والأمريكية- بشكل جيد في بيئة منخفضة الضغط ومنخفضة الكثافة نسبيًا في الفضاء القريب، حيث تساعد درجات الحرارة المنخفضة أيضًا في منع ارتفاع درجة حرارة الصواريخ.
ويمكن لهذه الأسلحة المناورة بسرعات أعلى من 5 ماخ -وهو عدد من دون وحدة- ويصعب اكتشافها وإسقاطها.
أمام ذلك، يطور البنتاغون صواريخ كروز تفوق سرعة الصوت، ورؤوسًا حربية انزلاقية تطير فوق 80 ألف قدم، وهو المدى الأعلى لما يمكن أن تصل إليه أغلبية صواريخ الدفاع الجوي.
ولكن، تظهر الصين بقوة في هذه التكنولوجيا، إذ يقول مسؤول أمريكي سابق: إن بكين أجرت أكثر من 200 تجربة صاروخ تفوق سرعة الصوت.
وعام 2021، صُدم مسؤولو البنتاغون بتجربتين صينيتين لنظام إيصال صواريخ تفوق سرعة الصوت، يستطيع حمل السلاح النووي، حيث وضع السلاح أولاً في مدار في الفضاء، ثم مكّنه من الانفصال والنزول عبر الفضاء القريب من الأرض.
وحسب الصحيفة، تعمل الصين والولايات المتحدة أيضًا على تطوير طائرات فضائية، يمكن أن تطير على ارتفاعات مدارية، وكذلك في منطقة الفضاء القريبة، ويمكن استخدامها في مهام لوجستية وجمع معلومات استخبارية، إضافة إلى طلعات مسلحة محتملة في زمن الحرب.
لكن المسؤولين العسكريين الحاليين والسابقين يقولون إن الولايات المتحدة لا تتمتع بتغطية كافية من أجهزة الاستشعار في هذا المجال، كما يتضح من الحلقة الأخيرة المتعلقة بمنطاد التجسس الصيني، إذ لم يكتشف المسؤولون الأمريكيون برنامج منطاد التجسس الصيني الأوسع نطاقًا، إلا بعد سنوات من تشغيله.