روايات مرعبة من داخل المواقع السوداء.. كيف أجهض النظام الإيراني الاحتجاجات؟

تمكنت -سي إن إن- من تحديد أكثر من ثلاثين موقعًا أسود، كانت سجونًا غير معلنة داخل منشآت حكومية، مثل قواعد الجيش والحرس الثوري المعروفة للجماعات الحقوقية والمحامين منذ سنوات

روايات مرعبة من داخل المواقع السوداء.. كيف أجهض النظام الإيراني الاحتجاجات؟

السياق

صعق بالكهرباء، جلد وضرب، كسر الأطراف، عنف جنسي، أشكال عدة للتعذيب الذي مارسه النظام الإيراني ضد المحتجين، لسحق الانتفاضة التي شكلت أكبر تهديد للنخبة الدينية منذ عقود.

إلا أن ذلك التعذيب لم يكن في مراكز الاعتقال الرسمية التي تديرها الدولة، بل في أماكن خارج سيطرتها يقوم عليها الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية، في مناطق عدة من البلد الآسيوي.

فعلى مدى أشهر، غصت تلك المراكز بآهات المحتجين، وأصبحت شاهدة على أنواع من العذاب لم يتعرض لها أحد، في رسالة ترهيب واضحة للنشطاء، الذين خرجوا منتصف سبتمبر الماضي، احتجاجًا على وفاة الشابة الكردية مهسا أميني على يد ما تعرف بـ«شرطة الأخلاق».

إلا أن خروجهم كان أكبر اختبار وتحدٍّ للنظام الإيراني، دفعه إلى استخدام أساليبه القمعية لإنهاء هذه الانتفاضة، من التعذيب مرورًا بالإعدام، إلى الخداع.

ويقول أحد النشطاء الذي احتُجز في مستودع كان كسجن سري في مشهد: «تعرض الناس للضرب المبرح، وانتهى بهم الأمر بكسر في الأنف، أو كسر في الأذرع، أو في الضلوع».

وأضاف الناشط الذي رفضت «سي إن إن» كشف هويته لأسباب أمنية: كنت في السجن ست سنوات. كان الوضع أسوأ بكثير هذه المرة.

 

شبكة رعب

وتمكنت «سي إن إن» من تحديد أكثر من ثلاثين موقعًا أسود، كانت سجونًا غير معلنة داخل منشآت حكومية، مثل قواعد الجيش والحرس الثوري المعروفة للجماعات الحقوقية والمحامين منذ سنوات، بينما بعضها الآخر كان سجونًا مؤقتة وسرية -في بعض الأحيان مستودعات أو غرف فارغة في المباني أو حتى أقبية المساجد- ظهرت بالقرب من مواقع الاحتجاج خلال انتفاضة مهسا أميني.

وشهدت العاصمة الإيرانية، طهران، احتجاجات خلال انتفاضة مهسا أميني، أدت إلى انتشار تلك «المواقع السوداء» حول المدينة، وفقًا لمصادر الشبكة الأمريكية.

ووفقًا لعشرات الشهادات للناجين من التعذيب وكذلك الخبراء القانونيين، فإن التعذيب الذي مورس ضد المتظاهرين في هذه المواقع خارج الشبكة، كان «غير مسبوق» في خطورته.

وقالت مصادر لـ«سي إن إن»، إن قوات الباسيج شبه العسكرية تدير مراكز احتجاز في عديد من المساجد حول مشهد، وهي من مدينتين شيعيتين مقدستين في إيران، وتعد قاعدة قوة للنخبة الدينية.

وتمكنت الشبكة الأمريكية، من تحديد ثلاثة من هذه المواقع السوداء في مشهد، حيث قالت مصادر إن المتظاهرين تعرضوا للتعذيب الوحشي.

كانت مدينة سنندج الغربية -ذات الأغلبية الكردية- نقطة اشتعال في حملة قمع المتظاهرين، حيث اعتقال الآلاف وقتل المتظاهرين بالرصاص الحي.

وبينما قُتل عشرات المتظاهرين بمدينة زاهدان في سبتمبر الماضي، قالت إحدى المتظاهرات لـ «سي إن إن» إنها احتُجزت في ذلك اليوم وأُرسلت إلى موقع أسود، أكثر من شهر واغتُصبت مرارًا وتكرارًا.

ووفقًا لروايات، كانت المواقع السرية عادةً منفذ الاتصال الأول لعديد من المتظاهرين الموقوفين، حيث احتجازهم ساعات أو لمدة شهر.

وتراوحت أساليب الاستجواب بين الإساءة اللفظية وأشكال التعذيب الجنسي والجسدي المتطرفة، وفقًا للشهادات التي جمعتها «سي إن إن».

في جميع هذه الحالات، لم تعرف عائلات المتظاهرين الموقوفين مكان وجودهم لساعات أو أيام.

كان المتظاهرون معصوبي الأعين، وأحيانًا يدفعون حول المنطقة في دوائر على ما يبدو لإرباك المعتقلين قبل الاستجواب في المواقع.

تقول فاطمة، المتظاهرة التي احتُجزت في موقع أسود بحي تجريش الراقي شمالي طهران: «أخذونا إلى السطح وبدأوا تصويرنا بالفيديو من الرأس إلى أخمص القدمين».

وقالت: «لقد صفعوني على فمي ووصفوني بالفاسقة وقالوا: نحن نصورك بالفيديو حتى يمكنك القول إن وسائل الإعلام الأجنبية أثرت فيك بالنزول إلى الشارع».

وقالت فاطمة إن الرجال كانوا أعضاء في وحدة الباسيج شبه العسكرية التابعة للحرس الثوري، مشيرة إلى أنهم صفعوها ووجهوا إليها الشتائم والتحرش بها خلال أربع ساعات من احتجازها، وعصبوا عينيها بحجابها.

على سطح الموقع غير الرسمي، انزلق حجابها ولفتت انتباهها نافذة المبنى المجاور... قالت: «من خلال تلك النافذة، رأيت رجالًا أيديهم مقيدة خلف ظهورهم. كانوا عراة تمامًا وكانوا ينزفون من ظهورهم».

وقالت إن أحد خاطفيها لاحظها مذهولة بالموقع السري المجاور، وهي تشد الحجاب فجأة على وجهها، مشيرة إلى أنه أطلق سراحها عند منتصف الليل، وأمرها آسروها بالجري في الزقاق المظلم وهددوها بإطلاق النار عليها إذا نظرت إلى الوراء.

وعلى عكس فاطمة، لم يكن كيفان صمدي، طالب الطب، معصوب العينين. يقول إنه يتذكر المكان الذي احتُجز فيه بتفاصيل واضحة: البطانية المتسخة المخيطة التي كانت تستخدم كمرتبته، وجوه مستجوبيه الذين أطلقوا على أنفسهم رضائي وإبراهيمي وغيرهما. والخزانة التي تحتوي على أدوات التعذيب بما في ذلك المفكات وعصي الماشية.

ويقول: «لقد تعرضت لصدمات كهربائية في مؤخرة رأسي ورقبتي وظهري. أتذكر بوضوح أنهم صعقوا أعضائي التناسلية بالكهرباء لثوان (...) عندما كنت غير مقيد، لم أستطع الوقوف على قدمي. كنت ضعيفًا جدًا، وسحبني الجنود إلى الزنزانة».

وأطلق سراح الصمدي بكفالة بعد ثلاثة أسابيع من اعتقاله، ومن غير الواضح سبب إطلاق سراحه، ورغم عدم توقيعه اعترافًا، فإنه فر من إيران بعد وقت قصير من إطلاق سراحه، ويقول إنه نام في أكثر من 15 منزلاً آمنًا منذ ذلك الحين، خوفًا من الذراع الطويلة لقوات الأمن الإيرانية.

 

ليست ظاهرة جديدة

مراكز الاعتقال غير الرسمية ليست ظاهرة جديدة في إيران، فمجموعات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومركز حقوق الإنسان في كردستان، وثقت الانتهاكات التي ارتكبت في هذه الأماكن لسنوات.

ومع ذلك، يقول محامون ونشطاء إن انتشار المواقع خلال احتجاجات مهسا أميني، كان غير مسبوق.

ويقول قاسم بودي، المحامي من تبريز، شمالي غرب إيران: «لم يزد استخدام مراكز الاعتقال السرية بشكل ملحوظ فحسب، بل أصبح التعذيب المستخدم فيها أكثر قسوة وظروف الاحتجاز أكثر تقييدًا».

ويقول المراقبون إن خوف النظام من إطاحته دفعه إلى ارتكاب تكتيكات وحشية بشكل متزايد، مشيرين إلى أن الاختلاف الرئيس بين هذه الاحتجاجات والسابقة هو حجم الاحتجاجات.

وقال بودي الذي سعى للجوء خارج إيران: «لقد كانت منتشرة على نطاق واسع (...) شعر النظام بأنه سيسقط هذه المرة. كان بحاجة إلى وقف الاحتجاجات بأي ثمن».

وقال محام مقيم في إيران، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية: «خلال الاحتجاجات الأخيرة، أخذوا المتظاهرين إلى أماكن، مثل مواقف السيارات في المساجد والمرائب في قواعد الباسيج، وفعلوا ما يريدون فعله معهم»، مشيرًا إلى أنهم أطلقوا العنان لمجموعة من الكلاب المجنونة لمعاملة المتظاهرين بوحشية.

ويقول أربعة محامين إيرانيين واثنان من شهود العيان لـ «سي إن إن»، إن المحققين حقنوا أحيانًا المحتجين بالمهدئات مثل المورفين والكوديين.

مرزية محبي، المحامية التي كانت قاضية في مشهد -إحدى المدينتين الشيعيتين المقدستين في إيران- قالت لـ «سي إن إن»، إن رجلًا واحدًا على الأقل تعرض للتعذيب حتى الموت، في أحد المواقع السرية التي انتشرت في المدينة.

وقالت محبي إن مراكز الباسيج في عديد من المساجد تحولت إلى مواقع سوداء في مدينة مشهد، وهي قاعدة قوة للنظام شمالي شرق إيران، حيث بدا أن الاحتجاجات أعمت القيادة الدينية. وتابعت: «الباسيج كانت جامحة (...) لقد فعلوا أشياء اعتقدنا أنها لا يمكن تصورها قبل هذه الاحتجاجات».

كما انتشرت المواقع غير الرسمية في محيط موقع الاحتجاج الرئيس في مدينة زاهدان الجنوبية الشرقية، موطن عديد من البلوش، وهم أقلية سنية مضطربة. وقتل عشرات هناك في 30 سبتمبر الماضي، في أعنف يوم في حملة القمع.

وقالت متظاهرة نزلت إلى الشوارع في ذلك اليوم، إنها نُقلت إلى موقع سري داخل منشأة للحرس الثوري، مشيرة إلى أنها احتُجزت أكثر من شهر واغتصبها ثلاثة رجال.

 

تمهيد الطريق لعقوبة الإعدام

هذه المواقع ساعدت في إرساء الأساس لعشرات أحكام الإعدام ضد المتظاهرين، خلال محاكمات صورية متسرعة، وفقًا لشهادة جمعتها «سي إن إن»، مشيرة إلى أنه طُلب من المتظاهرين دائمًا تقريبًا توقيع اعتراف بالإكراه يقرون فيه بأنهم جزء من جماعة إرهابية، سعياً لإسقاط الدولة أو زرع الفوضى، وهي تهم يُعاقب عليها بالسجن فترات طويلة أو الإعدام.

وبحسب الشبكة الأمريكية، أعدِم أربعة متظاهرين منذ بدء احتجاجات مهسا أميني، وحُكم على ما لا يقل عن 40 بالإعدام، ووجهت إلى أكثر من 100 تهم بجرائم يعاقب عليها بالإعدام.

وبحسب مصدرين مطلعين على الأحداث، فإن محمد مهدي كرامي وسيد محمد حسيني -اثنان من المتظاهرين اللذين أعدِما في سن 21 و39 على التوالي- تعرضا للتعذيب في مواقع غير رسمية، قبل نقلهما إلى سجن كرج جنوبي طهران.

محسن شكاري، أول محتج يُعدم بعد الانتفاضة الأخيرة، نُقل هو الآخر إلى موقع سري، قبل اقتياده إلى السجن ثم حُكم عليه بالإعدام في محاكمة كانت أحداثها سريعة، بحسب مصدر ثالث.

كرامي كان بطل كاراتيه إيراني كردي، يقول والده لـ«ميزان أونلاين»، وهي وكالة أنباء تابعة للقضاء الإيراني، إن نجله تعرض للضرب المبرح أثناء استجوابه، لدرجة أن آسريه تركوه في الشارع معتقدين أنه مات، قبل أن يعتقلوه مرة أخرى.

 كان حسيني متظاهراً «قيدوا يديه ورجليه... وضربوا باطن قدميه بقضيب حديدي وفي أجزاء من جسده»، طبقاً لمحاميه علي شريف زاده أردكاني.

وقال المحامي دهغان لـ «سي إن إن»: «كلما قامت قوات الأمن بتعذيب الناس، كانوا حريصين على عدم إيذاء وجوههم أو أيديهم». لقد حافظوا على وجوههم من دون أن يصابوا بأذى، حتى يتمكنوا من المثول أمام المحكمة بلا علامات واضحة على الانتهاكات.

وتقول الشبكة الأمريكية، إن الوحشية التي تمارس في هذه الشبكة السرية من مواقع الاستجواب القاسية كان لها التأثير المطلوب، فالاحتجاجات التي بدت ذات يوم تشكل تهديدًا وجوديًا للنظام، تلاشت.

إلا أنه مع ذلك، يقول النشطاء إن المعارضة الأساسية لم تختف، وإن قسوة النظام في مواجهة انتفاضة مهسا أميني، ولدت استياءً يمكن أن يعاود الظهور بقوة أكبر، لكنهم يعترفون بأن موجة أحكام الإعدام كان لها تأثير مخيف بشكل خاص.

وفي استمرار لتطبيق سياسة الإعدام، أملًا بإجهاض أي محاولة للتظاهر ثانية، أعلنت وكالة أنباء «ميزان» التابعة للسلطة القضائية الإيرانية، الثلاثاء، صدور حكم بإعدام زعيم جماعة تندر الملكية المعارضة جمشيد شارمهد.

واتهمت السلطات الإيرانية شارمهد بالتخطيط وتفجير حسينية في مدينة شيراز عام 2008 واغتيال المسؤولين وكشف معلومات سرية عن الحرس الثوري، إضافة إلى اتهامه بتوجيه وقيادة جماعة تندر التي تسميها إيران «الفرع المسلح لجمعية المملكة الإيرانية».

وجمشيد شارمهد، إيراني اختطفته قوات الحرس الثوري في أغسطس 2020 خارج إيران، يحمل الجنسية الألمانية ولديه إقامة أمريكية.