من سيليكون فالي إلى بي بي سي.. لماذا لم يتوقع أحد تلك الأزمات؟

يقول مايكل سكابينكر، إنه غالبًا ما يفشل كبار المديرين في أخذ أسوأ السيناريوهات بالاعتبار، خصوصًا أنهم لا يستمعون دائمًا إلى المشككين من موظفيهم.

من سيليكون فالي إلى بي بي سي.. لماذا لم يتوقع أحد تلك الأزمات؟

ترجمات - السياق

أزمات اقتصادية، موجة من الذعر ضربت الأسواق العالمية على وجه العموم، والأمريكية بشكل خاص، فور إعلان انهيار ثلاثة بنوك أمريكية: "سيليكون فالي وسيغنيتشر وسيلفرغيت"، تبعها تدهور مصرف كريدي سويس إلى حافة الانهيار.

بالمقابل دخلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في حالة من الفوضى لم تشهدها، بينما عانى بنك جيه بي مورغان تشايس تضرر سُمعته، ويواجه دعاوى قضائية، ما أثار السؤال: لماذا لم يتوقع أحد تلك الأزمات قبل وقوعها؟

مايكل سكابينكر مؤلف كتاب "داخل نادي القادة... كيف تتعامل الشركات الكبرى مع قضايا الأعمال الملحة"، حاول الإجابة عن هذا السؤال، مشيرًا إلى أنه غالبًا ما يفشل كبار المديرين في أخذ أسوأ السيناريوهات بالاعتبار، خصوصًا أنهم لا يستمعون دائمًا إلى المشككين من موظفيهم.

فقد انهار بنك سيليكون فالي، بعد أن تسببت استثماراته في السندات طويلة الأجل بضعفه أمام ارتفاع أسعار الفائدة، كما دخلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في حالة من الفوضى، بعد إيقافها أشهر مقدمي برامج كرة القدم، بينما تخلى زملاء آخرون عن مناصبهم تضامنًا معه، وعانى بنك جيه بي مورغان تشايس تضرر سمعته، ويواجه دعاوى قضائية بعد الإبقاء على مرتكب الجرائم الجنسية جيفري إبستين كعميل لديه مدة استمرت خمسة أعوام، عقب إقراره بالذنب في التحريض على الدعارة مع قاصر.

ويضيف سكابينكر: "يمكننا أن نسأل، كما فعلت الملكة إليزابيث الثانية في زيارة لمدرسة لندن للاقتصاد خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008: "لماذا لم يتوقع أحد هذه الأزمة؟".

 

أسئلة مشروعة

ووضع سكابينكر أسئلة عدة، مطالبًا بالإجابة عنها لتوضيح أسباب افتعال هذا الكم من الأزمات، قائلًا: "هل تساءل أي شخص بمراكز القيادة في "بي بي سي" أنهم إن أوقفوا غاري لينيكر عن تقديم أفضل برنامج لكرة القدم (ليلة السبت... مباراة اليوم)، فإن الناقدين الرياضيين الآخرين قد ينسحبون أيضًا؟

وهل نظر (سيليكون فالي) في المخاطر المرتبطة بسياساته الاستثمارية، إن ارتفعت أسعار الفائدة بشكل أسرع من المتوقع؟

ولماذا وافق بنك جيه بي مورغان على رغبة جيس ستالي كبير المصرفيين لديه في إبقاء إبستين؟".

وبيّن الكاتب أن هذه مجرد أمثلة دراماتيكية، لما يمكن أن يسير بشكل خاطئ، لكنه شدد على أن "أي منظمة تفشل في إبقاء مخاطرها المحتملة قيد المراجعة المنتظمة قد تمر بالشيء نفسه".

وقال: "طالما أنه غالبًا ما يفشل كبار المديرين في أخذ أسوأ السيناريوهات بالاعتبار، فلماذا لا يستمعون للمشككين قبل وقوع الأزمة؟".

وللإجابة عن هذه الأسئلة، نقل سكابينكر عن إيمي إدموندسون، الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال، قولها: إن السبب أحيانًا عدم وجود مشككين، حيث تصبح المجموعات القيادية حبيسة "أسطورة مشتركة" تعتمد على "التحيز لأفكارهم فقط، ويميلون إلى انتقاء الإشارات والبيانات والأدلة التي تعزز معتقداتهم"، لدرجة أن هذه القيادات تتجاهل أحيانًا أي اقتراحات أخرى بدعوى أنها "قد تكون خاطئة".

وأضافت: "هذا يشبه السير في الطريق الخطأ، وكأنك على الطريق السريع وتقود إلى مكان ما، في الاتجاه الخاطئ، لكنك لا تعرف ذلك حتى تصطدم بالحقيقة، لأنك حينها لن يمكنك تجاهل البيانات المؤكدة أمامك، وستتأكد أنك تجاوزت فجأة حالة خط لا تتوقع تجاوزه".

وترى إدموندسون أن هذا التفكير الجماعي والتحيز غير المحدود، منتشر على نطاق واسع داخل المجتمع، حيث يتشبث الناس بأي دليل يدعم وجهة نظرهم، وليكن مثلًا بشأن تغير المناخ، فتراهم يقولون: "يا إلهي، هذا الشتاء هو الأبرد على الإطلاق... أو ما المقصود بالاحتباس الحراري؟".

 

ضعف المشككين

في كثير من الحالات -حسب سكابينكر- هناك مشككون، لكنهم إما يترددون في جعل أصواتهم مسموعة، وإما عندما يفعلون ذلك، يتردد الزملاء في الانضمام إليهم.

وضرب مثلًا بما حدث في بنك جيه بي مورغان، مشيرًا إلى أنه كانت هناك تساؤلات عن إبستين، حيث ورد سؤال في بريد إلكتروني داخلي عام 2010: "هل ما زلت مرتاحًا لهذا العميل الذي أصبح مسجلًا كمرتكب لجرائم جنسية؟".

وفي ذلك، يقول جيمس ديتيرت، الأستاذ في كلية داردن للأعمال بجامعة فيرجينيا، إن التطور كبّلنا بقوة حتى لا ننحرف عن مجموعاتنا الضيقة، مضيفًا: "إذا فكرت في الوقت الذي قضيناه على الأرض كنوع من الكائنات، فقد عشنا معظمه ضمن عشائر وفِرق وقبائل صغيرة جدًا، ومن ثمّ فإن كفاحنا اليومي كان من أجل البقاء، سواء أكان ذلك بشأن الأمن الغذائي أم السلامة الجسدية، وفي تلك البيئة، إذا كنت منبوذًا، ستموت... إذ لا يستطيع أحد أن يعيش وحيدًا".

ويبيّن الكاتب، أن الجميع يخشون الطرد من العمل، لذلك يختار كل منهم إبعاد نفسه عن أي مخاطر تتعلق باكتشاف خطر محدق، مشيرًا إلى أن هذا الخوف يتفاقم بفعل تجربة المبلغين عن المخالفات، الذين يعانون أحيانًا انتقام أصحاب العمل منهم، كما يتجنبهم زملاؤهم، بينما يُقدم المنشقون لزملائهم خيارًا غير مريح لهم، فإما أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم جبناء لأنهم لم يتحدثوا أيضًا، وإما أن ينظروا إلى المتمردين على أنهم "نوع من المجرمين"، لكن الخيار الثاني يُعد أسهل في كثير من الأحيان.

وقال: "ألا تعد قصة لينيكر مثالًا على عكس ذلك؟، فقد أيده زملاؤه، الأمر الذي أجبر (بي بي سي) على أن تنظر بسرعة لمدى سوء تقديرها للمسألة".

وعن هذه الحالة يقول ديتيرت: إن أزمة لينيكر كانت استثنائية، إذ إن لاعبي كرة القدم المشهورين، الذين تحولوا إلى معلقين رياضيين، باتوا في حد ذاتهم "علامات تجارية"، لاسيما لينيكر، ومن ثمّ فقد أدركت (بي بي سي) حاجتها إليه، ومدى سهولة حصوله على عقد مع أحد منافسيها.

إذًا، ما الذي يمكن للقادة فعله لتشجيع المشككين على التحدث، وللتأكد من أنهم يأخذون في الحسبان الجوانب السلبية المحتملة لاستراتيجياتهم، للهروب من الإذلال أو الكارثة التي ستحدث في النهاية؟

ديتيرت ليس من المعجبين بتعيين شخصية تلعب دور "المُعارض البنّاء" المكلف برأي مخالف، إذ إنه من الواضح أنهم في الأغلب ما يفعلون ذلك بشكل سطحي، لكنه يُفضل ما يسميه "التقييم المشترك".

ويبين أنه إضافة إلى السياسة المفضلة -كالاستثمار في السندات طويلة الأجل مثلًا- ينبغي لكبار المديرين وضع سياسة مختلفة بشكل واضح ومقارنة كليهما، فمن المرجح أن تظهر عيوب في الاستراتيجية التي فُضلت.

 

سلوك القادة

وأشار الكاتب إلى أن سايمون ووكر، الذي تضمنت وظائفه رئيسًا للاتصالات في الخطوط الجوية البريطانية ومتحدثًا باسم الملكة إليزابيث، وسو ويليامز، المفاوضة الرئيسة السابقة في سكوتلاند يارد مع المختطفين والرهائن، أخبراه في مناسبة نظمتها هيئة شبكات الأعمال في "فايننشال تايمز"، بأنه ينبغي للقادة أن يأخذوا في الحسبان جميع المهمات، من الاتصالات إلى الشؤون القانونية إلى الموارد البشرية، عند دراسة الأزمات المحتملة.

وحسب الكاتب، يتفق ديتيرت على أن ذلك قد تكون له قيمة، بشرط أن يؤخذ وجود الإدارات التي لا تحظى بالاهتمام على محمل الجد مثل الموارد البشرية.

ويرى سكابينكر، أن سلوك القادة فيه إشارة على ما إذا كانوا يريدون من الموظفين التحدث أم لا.

وفي ذلك، تقول إدموندسون: "يتعين على قادة المنظمات أن يبذلوا قصارى جهدهم لجذب وجهة النظر المخالفة، والخطر الذي قد يفوتهم، وقبل أن ننهي أي محادثة ينتج عنها قرار، علينا أن نقول من دون الشعور بالفشل (ما الأمر الذي فوتناه؟)، ثم نقول، حسنًا، دعونا فقط نقول إننا مخطئون في هذا وإن الأمور ستسير على نحو سيئ، فما الذي يفسر ذلك؟". وقد أوصت بضرورة دعوة الناس بأسمائهم، وسؤالهم عن أفكارهم.

بينما يرى ديتيرت أن تصميم المكتب يمكن أن يشير إلى الترحيب بأفكار الموظفين، حين يجلس القائد في مخطط مكتبي مفتوح، أو عندما توجد خطوط واضحة على الأرض تشير إلى الطريق إلى مكتبه، أو الجلوس على طاولات مربعة من دون أسماء على أماكن الجلوس، بدلا من الطاولات المستطيلة التي يشير فيها وضع مقعدهم بوضوح إلى أنهم المسؤولون.

لكن كم هي مناسبة تلك الإعدادات في مكان العمل، في حين لم يعد الموظفون يأتون إلى المكتب كل يوم بعد عمليات الإغلاق؟ يقول ديتيرت: "هذا السؤال بعشرة ملايين دولار، فمن ناحية، قد يجعل العمل عن بُعد من الصعب على القادة قراءة الإشارات التي تدل على عدم ارتياح الناس للاستراتيجية، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يجد الناس أنه من الأسهل التحدث من منازلهم، وقد يشعرون أيضًا بأن جوانب أخرى من حياتهم، مثل الأسرة، أصبحت أكثر أهمية من العمل، ما قد يشجعهم على الكلام".

بينما يعتقد آخرون أن ثقافة العمل المريحة عن بُعد لدى "سيليكون فالي"، أسهمت في فشله، ما يعني أن كبار المديرين التنفيذيين المنتشرين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، شاركوا في هذا الفشل.

وفي ذلك، يقول نيكولاس بلوم، الأستاذ في جامعة ستانفورد الذي درس مسألة العمل عن بُعد، لـ"فايننشال تايمز": "من الصعب إجراء مكالمة تتسم بالتحدي عبر تطبيق زووم، فقد كان تداول مسألة التحوط من مخاطر أسعار الفائدة محتملًا أكثر، أثناء وجبة الغداء أو في الاجتماعات الصغيرة".

وخلص سكابينكر، إلى أن على القادة الاستمرار في مدح الذين يتكلمون، مشيرًا إلى أنه في الأغلب تكون العقوبات جراء ذلك أكثر وضوحًا من المكافآت، ونادرًا ما يلقى باللوم على الذين يطأطئون رؤوسهم فقط، مستشهدًا بما قاله الملياردير الأمريكي وارين بافيت: "قد تكون صورة القوارض قذرة كمجموعة، لكن لم يتعرض أي فرد من القوارض للنقد السلبي".