محاولات متواضعة لكنها مؤثرة... كيف ضربت كييف العمق الروسي؟
رغم مساعي موسكو الشديدة لحماية حدودها، فإن الضربات الأوكرانية تنفذ من وقت لآخر داخل الحدود الروسية، خصوصًا منذ دخول الحرب عامها الثاني.

ترجمات - السياق
على مدى عام كامل، ربما لم تخرج الحرب الروسية الأوكرانية عن نطاق الأراضي الأوكرانية كثيرًا، إلا أنه مع دخول عامها الثاني، ظهرت أسلحة جديدة متمثلة في طائرات من دون طيار وأسلحة بعيدة المدى، أوصلت الضربات الأوكرانية إلى القلب الروسي.
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، كشفت أن ثلاث طائرات من دون طيار حلقت في سماء بيلغورود، وهي مدينة روسية تقع على بُعد عشرات الأميال من الحدود الأوكرانية، مساء 27 فبراير الماضي، أي بعد أيام من الذكرى الأولى للعملية العسكرية الخاصة، التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد كييف في 24 فبراير من عام 2022.
وبينت الصحيفة، أن إحدى الطائرات من دون طيار اخترقت نافذة إحدى الشقق في الطابق السادس، وفاجأت زوجين كانا يشاهدان التلفاز، إلا أن الاثنين الآخرين تحطما في أحد الشوارع المجاورة، ما تسبب في احتراق عدد من السيارات المتوقفة، بخلاف إثارة الرعب بين السكان.
وبعد عشرة أيام، عثر عمال في محطة ضخ النفط بنوفوزيبكوف، وهي بلدة صغيرة في منطقة بريانسك الروسية، على قنبلة صغيرة قال المسؤولون إنها ربما أسقطتها طائرة من دون طيار أوكرانية.
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، انفجر حريق ضخم بأحد مباني جهاز الأمن الفيدرالي بمدينة روستوف أون دون، وكان الأحدث في الحرائق الغامضة التي ضربت غربي روسيا مؤخرًا.
الحدود الروسية
وأوضحت "واشنطن بوست" أنه رغم مساعي موسكو الشديدة لحماية حدودها، فإن الضربات الأوكرانية تنفذ من وقت لآخر داخل الحدود الروسية، خصوصًا منذ دخول الحرب عامها الثاني.
وأشارت إلى أن الحرب التي توقع بوتين أن ينتصر فيها بسرعة، تؤثر بشكل يومي في حياة الروس، مع تقارير عن حرائق وهجمات طائرات من دون طيار وقصف أوكراني عنيف على المدن والبلدات الروسية المحاذية للحدود الأوكرانية.
البداية كانت قبل أشهر، حينما أصاب قصف مستودعًا للنفط في منطقة بيلغورود الروسية المحاذية لأوكرنيا، وفق ما أفاد مسؤول محلي، مع تكثيف الضربات في هذه المنطقة خلال الأيام الأخيرة.
وقال حاكم المنطقة فياتشيسلاف غلادكوف على "تلغرام" حينها: "قصف جديد عندنا... أحد المقذوفات أصابت مستودع نفط" ونشر صورة تظهر دخانًا كثيفًا أسود يتصاعد من منشأة تحترق.
ونددت روسيا مرارًا بما سمته "ازديادًا ملحوظًا" للقصف الأوكراني على مناطق روسية حدودية، بينها بيلغورود وكورسك وبريانسك.
وحسب الصحيفة الأمريكية، فإن أوكرانيا ومواطنيها، يتحملون العبء الأكبر من المعاناة في هذه الحرب، إذ تقول الأمم المتحدة إن أكثر من ثمانية آلاف مدني أوكراني قُتلوا، بخلاف نزوح ملايين، بينما تحولت مدن إلى ركام.
ورأت الصحيفة أن الهجمات الأخيرة على المدن والبلدات الروسية الحدودية، أفشلت مخطط بوتين لمنع كل ما يخص الحرب عن مواطنيه، حتى أنه لا يستخدم مصطلح "الحرب" في تصريحاته الاعتيادية، وإنما يسميها "عملية عسكرية خاصة".
ومع تطورات الأوضاع، اضطر الرئيس الروسي إلى تشديد أمن الحدود، ليس في المناطق الأوكرانية الأربع التي يدعي، بشكل غير قانوني، ضمها، لكن على طول الحدود المعترف بها دوليًا مع روسيا نفسها، حيث تنشر أنظمة الدفاع الجوي في موسكو وأماكن أخرى.
ورغم أن أوكرانيا أعلنت مرارًا أن جيشها يعمل فقط داخل أراضيها، فإن عددًا من المسؤولين اعترفوا للصحيفة الأمريكية، بدور أوكراني في بعض "الضربات الدراماتيكية"، التي كان أبرزها الانفجار الذي استهدف جسر القرم في أكتوبر الماضي.
وبعد إعلان روسيا عن الانفجار، الذي استهدف أحد مباني جهاز الأمن الفيدرالي بمدينة روستوف أون دون، غرد مستشار الرئيس فولوديمير زيلينسكي قائلًا: "أوكرانيا لا تتدخل، لكنها تراقب بسرور".
هجمات الطائرات من دون طيار
وفي ما يخص هجمات الطائرات من دون طيار، بينت "واشنطن بوست"، أنه خلال الأشهر الأولى من الحرب، استهدفت المواقع القريبة جدًا من الحدود الروسية الأوكرانية فقط، بغارات الطائرات من دون طيار، خاصة مستودعات الذخيرة وخزانات الوقود، لكن بمرور الوقت، ازداد انتشار هذه الضربات لمناطق أبعد، حتى أنها تقترب من موسكو.
ووفقًا لمسؤولين روس كبار، فإنه أواخر الشهر الماضي، حاولت طائرة عسكرية من دون طيار ضرب محطة ضغط الغاز في مدينة كولومنا -على بُعد نحو 50 ميلاً جنوبي الكرملين- التي تعد جزءًا رئيسًا من شبكة الطاقة في العاصمة الروسية.
وتشير صور الطائرة من دون طيار المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أنها طائرة (يو جي - 22) أوكرانية الصُنع، أنتجتها شركة أوكرغيت، يبلغ مدى طيرانها 800 كيلومتر، أو قرابة 500 ميل.
ورغم أن الهجوم لم ينجح، حيث تحطمت الطائرة من دون طيار فوق الأشجار وسقطت على بُعد أمتار قليلة من سياج المحطة، فإنها كانت قد اقتربت بشكل مقلق من العاصمة الروسية موسكو.
وفي ديسمبر الماضي، نفذت طائرات من دون طيار الأوكرانية ضربة مزدوجة على قاعدة ساراتوف إنغلز -2 الجوية، التي تضم القاذفات النووية الاستراتيجية الروسية.
وحسب الصحيفة، كان هناك ما لا يقل عن 27 هجومًا بطائرات من دون طيار على أهداف عالية القيمة في روسيا ، خاصة القواعد العسكرية والمطارات ومنشآت الطاقة.
وأشارت إلى أنه في بعض الحالات، تحطمت طائرات من دون طيار أو أسقطت قبل أن تصل إلى أهدافها، لافتة إلى أن ثلاث طائرات مُسيرة على الأقل تحطمت بالقرب من مدينة أستراخان القريبة من بحر قزوين، ومركز إطلاق روسيا صواريخها على أوكرانيا.
بينما ضربت طائرة من دون طيار مطار دياغيليفو بريازان في ديسمبر الماضي، وانفجرت طائرة أخرى في أكتوبر بالقرب من مطار شيكوفكا في منطقة كالوغا -تبعد عن العاصمة موسكو 190 كيلومترًا- التي تستضيف فوج الطيران 52 للحرس الثقيل.
وعن تأثير هذه الضربات، نقلت "واشنطن بوست" عن إيان ماتفيف، المحلل العسكري الروسي، قوله: إن الهجمات لم تتسبب في أضرار واسعة النطاق بالأصول العسكرية، لكنها عملت على إضعاف معنويات القوات الروسية.
وأضاف: "عندما يكون لديك طائرة من دون طيار تحمل متفجرات صغيرة، من غير المرجح أن تحدث أضرارًا كبيرة، لكنها تمثل ضربات كبيرة لسمعة الدفاعات الروسية".
وأوضح ماتفيف أن النوع الرئيس الثاني من الهجمات استهدف مستودعات عسكرية ومخازن ذخيرة بالقرب من الحدود الأوكرانية، لاستنفاد الإمدادات الروسية.
وبيّن أن "فعالية استهداف مستودعات النفط ربما تكون غير ذات أهمية، لأن روسيا منتج نفط عملاق وليس من الممكن تعطيل الإمدادات بشكل كبير، لكن هذه الضربات بإمكانها خلق أزمات، من خلال استهداف المواقع التي تخزن الوقود المطلوب".
الدفاعات الجوية
وفي ما يخص الدفاعات الجوية، أشارت "واشنطن بوست" إلى أن الضربتين الناجحتين اللتين استهدفتا قاعدة ساراتوف إنغلز -2 الجوية، في ديسمبر الماضي، أزعجتا القيادة الروسية بشدة، لافتة إلى أنه منذ ذلك الحين، نشرت روسيا دفاعات جوية جديدة لحماية العاصمة موسكو.
ونوهت إلى أنه خلال الأشهر الأخيرة، نصبت أنظمة الدفاع الجوي مثل بانتسير- إس 1 و إس - 400 برافعات ثقيلة، ووضعها على أسطح المنازل، وفي حدائق العاصمة للدفاع عنها ضد أي محاولة أوكرانية.
ونقلت الصحيفة الأمريكية، عن دارا ماسيكوت -الباحثة البارزة في السياسات بمؤسسة راند للبحوث والتطوير- تأكيدها وضع ثلاثة أنظمة عسكرية على أسطح وزارة الدفاع ومقر وزارة الداخلية وأحد مراكز الأعمال، وسط موسكو، للدفاع عنها، حيث تُشكل قبة دفاعية حول مبنى الكرملين.
وأضافت: "ابتداءً من منتصف يناير الماضي، رصدت أنظمة مماثلة في أماكن أبعد في شتى أنحاء العاصمة".
وأشارت الصحيفة إلى أنه قبل الغزو، كان أهل مجمع سكني على حافة متنزه لوسيني أوستروف الوطني -ثاني أقدم حديقة وطنية في روسيا- يتمتعون بمناظر هادئة للغابة الممتدة لأميال شرقًا، لكن منذ يناير، استيقظ السكان على مشهد عديد من أنظمة الدفاع الجوي التي تقع في إحدى مناطق المتنزه.
وحسبما أفادت صحيفة إنسايدر الروسية، فقد اشتكى السكان المذعورون إلى السلطات، إلا أنها ردت بأن ذلك يأتي اضطرارًا لاحتياجات الأمن القومي.
وفي ذلك، يقول ماتفيف إن وضع هذه الأنظمة الصاروخية بالقرب من المناطق السكنية، يُمثل خطورة كبيرة، مشيرًا إلى أن الصواريخ يمكن أن تنحرف عن مسارها أو تنفجر بشكل عرضي.
وأضاف محذرًا: "لكل منها رأس حربي ويعمل بالوقود، ولو اندلع حريق فإن العواقب ستكون وخيمة".
تحصينات جديدة
ووفقًا لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح (آسليد) -منظمة غير حكومية متخصصة في جمع بيانات النزاع المفصلة وتحليلها ورسم خرائط الأزمات- فإنه منذ بدء الحرب، أبلغت السلطات الروسية بأكثر من 300 غارة شملت قصفًا أو مدفعية أو صواريخ على قرى وبلدات حدودية روسية، وما لا يقل عن 40 ضحية.
وأشارت "واشنطن بوست" إلى إخلاء بعض القرى، وتحول عديد من المدارس في المنطقة إلى دروس عبر الإنترنت، وغالبًا ما تغمر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي "الحكومية" بالنداءات من السكان المضطربين، الذين يطالبون بحمايتهم من الأعمال العدائية.
من جانبهم، يلقي المسؤولون باللوم في هذه الهجمات على أوكرانيا، لكن كثيرًا منها -وفق الصحيفة- يحدث في مناطق نائية، وليس هناك أدلة فيديو كثيرة، ما يجعل من المستحيل التحقق من المزاعم الروسية.
"خط زاسشنايا"
ومع ذلك، استفادت السلطات من هذه التقارير للمطالبة بالدعم الوطني للحرب، وتبرير بعض الإجراءات العسكرية، مثل حفر الخنادق وبناء كتل "أنياب التنين" -وهي كتل إسمنتية تهدف إلى وقف هجوم بري للعدو- على طول الحدود المعترف بها مع أوكرانيا.
وحسب الصحيفة الأمريكية، بدأت بيلغورود، وهي إحدى مناطق الانطلاق الرئيسة للقوات الروسية، وضع التحصينات في وقت مبكر من أبريل 2022، مشيرة إلى أنه أعيدت تسمية التحصينات باسم "خط زاسشنايا"، وهو مصطلح من العصور الوسطى، يشير إلى خط من التعزيزات التي أنشئت على الحدود الجنوبية للقيصرية الروسية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وبدأت منطقتان حدوديتان -كورسك وبريانسك- البناء خلال الخريف الماضي، بعد الهزائم العسكرية الروسية.
شبه جزيرة القرم
في فيلم وثائقي قصير أنتجته محطة تلفزيونية محلية تمولها الدولة، قال حاكم بريانسك ألكسندر بوغوماز إن وزارة الدفاع أمرت ببدء الحفر أوائل ديسمبر.
وبينت "واشنطن بوست" أن تكلفة هذه التحصينات كانت باهظة جدًا، مشيرة إلى أن منطقة بيلغورود وحدها أنفقت قرابة 132 مليون دولار على المشروع.
لكن الخبراء العسكريين، وحتى بعض المعلقين الروس المؤيدين للحرب، يتفقون على أنها غير مُجدية إلى حد كبير، لأنه لا توجد فرصة تقريبًا لشن القوات الأوكرانية هجومًا بريًا على الأراضي الروسية.
وفي الأسابيع الأخيرة، عملت روسيا بنشاط على إقامة تحصينات مماثلة في "شبه جزيرة القرم المحتلة" والأراضي الأخرى التي تحتلها جنوبي أوكرانيا، ما قد يشير إلى أن موسكو تخشى فقدانها.
كما تُظهر صور الأقمار الاصطناعية لجسرين أرضيين ضيقين يربطان شبه جزيرة القرم بالبر الرئيس لأوكرانيا، دفاعات بنيت مؤخرًا في أرميانسك وميدفيديفكا.
وهو ما يعلق عليه ماتفيف بالقول: "يبدو أن الجيش الروسي يتفهم أنه قد يتعين عليه الدفاع عن شبه جزيرة القرم في المستقبل القريب".