من الرقابة الأمنية إلى الذاتية... كيف روَّض الإعلام المصري نفسه؟

رغم توافر شهادات من صحفيين هرعوا إلى مكان الحادث أو كانوا في محيطه صدفة، فإن ما تعلمه الإعلام -على مدى سنوات- هو أن يكون الفرد رقيب ذاته، حتى لو غابت عنه الرقابة الأمنية أو الحكومية، وهو ما يشبهه محللون كمن يطلق النار على نساقه

من الرقابة الأمنية إلى الذاتية... كيف روَّض الإعلام المصري نفسه؟

السياق

في الماضي القريب، كان الإعلام المصري يذخر بجملة من كُتّاب الرأي والمفكرين، وبين صحف وقنوات الحكومة ومثيلاتها الحزبية والمعارضة، استفاد المواطن من حالة التنافس الحميد والتعددية الملموسة وهامش الحرية الواضح، فوقتها لم تكن المعلومة من المحرمات، ولا تفسيرها وتشريح أبعادها من الرفاهيات، وبعد سنوات كانت الصدارة العربية فيها للإعلام المصري، بات الأخير يتذيل الترتيب.

ويقول مطلعون على "مطبخ الإعلام" في مصر، إن الأوامر التي ينتظرها المذيعون أو رؤساء ومدراء التحرير، لتناول حدث داخلي أو خارجي، وكذلك كيفية متابعته، بل وترتيب الفقرات في البرنامج وكلمات العنوان وحجمه في الصحف، وإلى آخره من التعقيدات الرقابية، أسقطت الإعلام في بركة من البيروقراطية، يعد الخروج منها فِعلًا غير مقبول.

هذا الحال ليس وليد أشهر، بل سنوات تغيرت فيها الأحداث العالمية، وتبدلت مواقف الدول، وأغلقت ملفات وفُتحت أخرى وعُقدت مصالحات، وتساوت الخلافات حتى في الداخل المصري لم يعد الوضع كما كان، فقضايا مثل "الإرهاب" حُكم عليها "بالتجميد"، وفي المقابل ظهرت تحديات ضارية، مثل الوضع الاقتصادي المتأزم والحرب في السودان.

أخيرًا أعلنت الدولة "حوارًا وطنيًا" لكن بنظرة خاطفة على حال الإعلام المصري، تجده كما كان، كأنه خارج دائرة الزمن ولا يتأثر بهذه المتغيرات من حوله.

الاختبار الأخير والنتيجة المتوقعة

المجند المصري، الذي كشفت تل أبيب عن هويته، وقتل 3 جنود من جيشها وأصاب رابعًا على الحدود في عمل مفاجئ، وضع الإعلام الإسرائيلي والإقليمي في حالة تأهب وتنافس، لتقصي حقيقة الفعل وملابساته.

واكتفت مئات القنوات والصحف والمنصات الإخبارية المصرية، بنقل بيان المتحدث العسكري المصري المقتضب، من دون أي كلمة إضافية.

وهو ما أثار غضب كثيرين، كالوا وابلًا من الانتقادات لأداء الإعلام في مصر، بينما أداروا ظهورهم له ليشاهدوا قنوات أخرى، ويطالعوا مواقع نقلت عن القنوات الإسرائيلية التفاصيل المتعلقة بالمجند المصري، ومنها ما تعده الدولة المصرية الإعلام المعادي.

حادثة المجند المصري محمد صلاح، وطريقة تعامل الإعلام معها، أعادتا تسليط الضوء على حالات مماثلة، كان أبرزها حادث "معهد الأورام عام 2019".

 فالتفجير الذي وقع في قلب القاهرة، على مقربة من ميدان التحرير وراح ضحيته عشرات القتلى والمصابين من مرضى السرطان وذويهم، ظل الإعلام المصري الرسمي والخاص أكثر من ساعة في انتظار بيان وزارة الداخلية الرسمي لتغطية الفاجعة.

الرقيب الذاتي

ورغم توافر شهادات من صحفيين هرعوا إلى مكان الحادث أو كانوا في محيطه صدفة، فإن ما تعلمه الإعلام -على مدى سنوات- هو أن يكون الفرد رقيب ذاته، حتى لو غابت عنه الرقابة الأمنية أو الحكومية، وهو ما يشبهه محللون كمن "يطلق النار على ساقه".

صمت بشأن السودان

وأخيرًا كانت الحرب الدائرة في السودان كاشفة، بانعكاساتها في هذا الصدد، فالدولة الجارة، المشتركة مع مصر في الثقافة والتاريخ والجغرافيا، فور اندلاع القتال فيها، كانت تغطية الإعلام المصري باهتة، ومن دون إحاطة بتوجهات البلد الاستراتيجية.

مصادر مطلعة قالت إن تعليمات أمنية، أوصت وسائل الإعلام المصرية، بعدم تناول ما يحدث في السودان بشكل معمق، والاكتفاء بمواضيع إخبارية سريعة.

المهنة في عيون أبنائها

الكاتب الصحفي أنور الهواري، أشار في عدد من المنشورات له في "فيسبوك" إلى ما وصفه بـ"الغباء الإعلامي في مصر"، بقوله: "خصائص هذا الإعلام كانت موجودة في فترات سابقة، وبمقادير متفاوتة، لكن ليس بهذه الكثافة في البروباجندا الفارغة، وليس بهذا البؤس المهني غير المسبوق، وليس بهذا الجفاف الأخلاقي المشين".

وبينما تحولت المواقع الإخبارية إلى صحافة حوادث وجريمة وإثارة، وتعتمد في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي بـ"البث المباشر" لمواضيع يراها محللون غير نافعة ومبتذلة، تجبرنا على تسليط الضوء على الضائقة المالية التي تعيشها المؤسسات الإعلامية مع غياب التمويل اللازم".

أستاذ الإعلام بجامعة المنصورة محمد فتحي يونس، كتب في فيسبوك ساخرًا: "صحافة البث الحي حوَّلت المشهد الإعلامي  لموالد زمان، حيث رقص النسانيس وربط الحواة بالحبال ونشان الرصاص (..) لماذا يقبل الناس على ذلك وكيف يتكيف الإعلام  ويتطور وفق هذه النتيجة ويقدم إعلامًا مفيدًا؟ هذا هو التحدي... لا يمكن التعالي على الحقيقة، نتجرعها ونحاول التطور".

وفى حديث للكاتب الصحفي محمد سعد عبدالحفيظ، قبل عام، قال إن المشهد الإعلامي فى مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، مُلبد بالعديد من الغيوم. وأكد أن الدولة في مرحلة ما بعد 2015 تدخلت بشكل مباشر فى تنظيم المشهد الإعلامي.

الإعلام... ملف الدولة المعقد

ملف الإعلام من بين الأكثر تعقيدًا وغموضًا وتخبطًا، وشهد تغييرات كثيرة ومتلاحقة في الآونة الأخيرة، حتى تحدث مطلعون عن صراع نفوذ بين جهات أمنية لكيفية إدارة وتوجيه الرأي الإعلامي، وفي ذلك حدث انقسام، وأدارت كل جهة مجموعة إعلامية تابعة لها، ووصل الأمر حد الخلاف العلني، وهو ما ظهر في حادثة أسامة هيكل، وزير الإعلام المستقيل.

ما حدث مع هيكل عام 2020 فسره محللون بأنه ناجم عن صراع خفي ظهر إلى العلن، بين جهته كوزير حكومي والمسؤولين عن إدارة الملف الإعلامي في مصر لفرض السيطرة، فتعرض الوزير لحملة شرسة من المذيعين والإعلاميين في المؤسسات الخاصة، وحتى الحكومية التي كانت تحت إدارته، ما بين سطوة ونفوذ الجهة المحركة للوسائل الإعلامية.

وواجه هيكل حملة وصفها بالممنهجة -بعد انتقاده لأداء حالة الإعلام في مصر- لكنه لم يحدد الجهة التي فعلت ذلك، واضطرته في النهاية إلى الاستقالة.

رصيد المصداقية

في سكون تام تتخلله فترات من الشد والجذب والخلافات، ما بطن منها وما ظهر، فإن حال الإعلام في مصر يبقى كما هو عليه، وأي تغيير يطرأ يكون هامشيًا غير ذات تأثير، يقول محللون.

 وأشاروا إلى أن الوضع الاقتصادي الحرج ومعاناة الناس الواضحة من ارتفاع الأسعار، أجبرا صُناع القرار الإعلامي في القاهرة، على فتح منفذ بسيط يكاد لا يرى، لانتقاد أداء الحكومة الاقتصادي.

ويؤكد متابعون أن مَن تبقى من المشتغلين في المهنة، وجدوا أنفسهم مستكينين إلى الأوامر، إذ يؤيدون بقرار ويعارضون بآخر، حتى تحولت الصحافة إلى مهنة لا تخاطب إلا نفسها، وفقدت ما تبقى لها من مصداقية.