هنري كيسنجر يدخل قرنه الثاني.. لماذا لايزال مؤثراً حتى الآن؟
في عيد ميلاده المئة، ما زال كيسنجر، يلقى آذانًا مصغية من كبار قادة العالم، ويقدم نصائحه بمهارة في القضايا الجيوسياسية، وما زال يثير إعجابًا بقدر ما يسبب انقسامًا.

ترجمات – السياق
قبل أيام، احتفل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، بعيد ميلاده المئة، إيذانًا بدخول القرن الثاني من حياته، التي قضى معظمها في أروقة السياسية الأمريكية، قريبًا من دوائر صُنع القرار بين وجوده كعضو بارز في جهاز المخابرات، مرورًا بمجلس الأمن القومي، ثم وزيرًا للخارجية.
ففي عيد ميلاده المئة، ما زال يلقى آذانًا مصغية من كبار قادة العالم، ويقدم نصائحه بمهارة في القضايا الجيوسياسية، وما زال يثير إعجابًا بقدر ما يسبب انقسامًا.
وبينما هناك من يرى أن كيسنجر دبلوماسي مدهش وفريد، يرى آخرون أنه "مجرم حرب"، غير أن إيان بريمر المؤسس والرئيس لمجموعة أوراسيا، يقول: "بالنسبة لي، أتبنى وجهة نظر وسطية بين هذا وذاك".
وروى بريمر، قصى علاقته بالدبلوماسي الأمريكي، وقال إنه يعرف كيسنجر منذ وقت طويل وقابله للمرة الأولى عام 1994 "عندما كنت عائدًا من أوكرانيا وعرفته بنفسي خلال فعالية بنيويورك، وكان مهتما وعرض عليّ تناول الغداء معه، في مفاجأة لي لأنه لم يكن يعرفني، وظننت أنه يحاول التهرب مني للتحدث مع آخرين".
لكن بعد يومين، وجد بيرمر نفسه في مكتبه، يتناول معه الشاي والطعام، ويتحدث معه عن أوكرانيا والعلاقات الروسية والعلاقات الأوروبية والأمريكية، وأضاف: "لقد شعرت بأنني أتحدث مع أستاذي الجامعي أو صديقي، لم أشعر بأنه مغرور بل أراد فهم ما تعلمته من علاقاتي وتحليلي لها، ووضعها في مقارنة بوجهات نظره"، مشيرًا إلى أن معظم قراءته لكيسنجر كانت تعتمد على كلماته في عالم الدبلوماسية، وبعض أساتذته في ستانفورد ومن أشخاص وزملاء.
تبادل المصالح
لم يكن هذا اللقاء الأخير، الذي جمع بريمر مع كيسنجر، إذ روى أنه التقاه بعد ذلك بعض المرات، حيث كان الحديث يتمحور حول قضايا عالمية، وقال إن من المثير للاهتمام الاستماع إلى وجهات نظره. وأضاف: "عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية الواسعة، فإنه يملك وجهة نظر محددة جدًا شديدة الاستراتيجية، تعتمد على تبادل المصلحة.
وقال إن كيسنجر، لا يزال يعتقد أن أوروبا غير مهمة، ولا يعترف بأن الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر قوة وقدرة كمؤسسة، مقارنة بما كان عليه قبل 10 أو 20 أو 30 عامًا عندما كان يقول: "بمن أتصل في أوروبا؟ أعطوني رقم هاتف. إنهم لا يملكون واحدًا".
على الجانب الآخر، إنه يعد نفسه بشكل ملحوظ ليعلم ويفهم الذكاء الاصطناعي، على نحو يتجاوز وجهة نظر الشخص العادي، لكن فهم السياسة والتداعيات وهو أمر استثنائي لرجل يبلغ مئة عام.
يقول إيان بريمر، إنه يعد الذكاء الاصطناعي يغير قواعد اللعبة على المستوى الجيوسياسي، أكثر أهمية من أي تحول شاهده على المسرح العالمي منذ مناقشته رسالة الدكتوراة الخاصة، به قبل أكثر من 30 عامًا، وأضاف: "لكن أن يفعل كيسنجر ذلك في عمر المئة شيء مذهل تمامًا، حيث لا يزال يملك الوسائل والفطنة لفعل ذلك".
شعور بالإعجاب
يقول بريمر، إنه حضر مؤخراً، فعالية أقامتها منظمة الرؤساء الشباب شارك فيها آلاف، وكان كيسنجر بصدد إلقاء محاضرة رئيسة، لكنه كان يحتاج محاورًا يتفاعل معه لمدة ساعة، وطلب منه تأدية هذا الدور ووافق على ذلك، وأشار إلى أن المثير للاهتمام أنه جلس بالقرب منه، حتى يتسنى له الاستماع بوضوح إلى ما يقوله.
وتابع بريمر: "لكن خلال ساعة، كانت محادثة جادة جدًا بجودة من تحدثت معهم في برنامجي خلال الأعوام السبعة الماضية، كل هذه الأمور تدفعك إلى الشعور بالإعجاب من قدرة شخص على فعل هذا في مثل هذه السن، بصرف النظر عن الإيجابية أو السلبية".
صفحات مظلمة
كيسنجر الذي كان لاعبًا رئيسًا في الدبلوماسية العالمية خلال الحرب الباردة، وحائز نوبل للسلام، أطلق التقارب مع موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي، معتمدًا على رؤية براغماتية للعالم، تعد نوعًا من "السياسة الواقعية" على الطريقة الأمريكية.
لكن صورة الرجل ذي الصوت الأجش واللهجة الموروثة من أصوله الألمانية، ما زالت مرتبطة بصفحات مظلمة في تاريخ الولايات المتحدة مثل دعم انقلاب 1973 في تشيلي أو غزو تيمور الشرقية عام 1975، وبالتأكيد فيتنام.
يقول إيان بريمر، إن حديثه عن كيسنجر، لا يعني أنه مؤيد كبير لآرائه العالمية، وأضاف: "عندما تكون في منصب مثل وزير الخارجية أو مستشار الأمن القومي، تكون لديك سلطة في يديك وتتخذ قرارات قد تدمر الناس".
وأشار الى انه لا يستطيع تبرير أو الاصطفاف مع كثير من القرارات التي اتخذها كيسنجر، بينها ما يتعلق بتشيلي على سبيل المثال، لافتاً إلى أن كيسنجر كان مؤيدًا لبينوشيه والانقلاب الذي أطاح حكومة منتخبة ديمقراطيًا.
كما دعم كيسنجر أيضًا سوهارتو في إندونيسيا، وعمليات القتل في تيمور الشرقية، التي راح ضحيتها أكثر من 100 ألف من المدنيين الأبرياء، وأصبحت دولة مستقلة، بيد أن الأمريكيين كانوا سعداء بالدعم السري للإبادة الجماعية في ذلك الوقت.
وقال بريمر: "لقد كانت هذه سياسة كيسنجر، ولم تكن سياسة أمريكية استثنائية بل عكس ذلك".
في فيتنام مثلًا، يتحمل كثيرون مسؤولية التدخلات القاتلة، وهو درس لم يتعلم منه الأمريكيون بما فيه الكفاية.
بينما شهدت كمبوديا تحديدًا، حملة قصف سري، أنكرها كيسنجر فترة طويلة، وراح ضحيتها مجددا ما يزيد على 10 آلاف مدني، هذا ما يتحمله بشكل فردي.
قرارات خاطئة
وقال بريمر إن "شخصًا كان محاضرًا في جامعة هارفارد واحترمته كثيرًا من كتاباته، التي قرأتها ثم تعلم ما فعله هذا الشخص عندما كان في السلطة، رغم ما يبدو لك خلال مقابلتك إياه، يجعلك تشعر بالإحباط، وبأن هناك شيئًا لا تعرفه جزء لا يتجزأ من هذا الشخص".
وأضاف: "لا يمكنك التسليم بأن كيسنجر أحد الرجال أصحاب التأثير الأكبر في الدبلوماسية الأمريكية والعالم، من دون الاعتراف بالتأثير السلبي لبعض قراراته"، لكنه أشار إلى أنه في عالمنا اليوم، ربما يعد كيسنجر أحد الذين يتحملون المسؤولية الأكبر عن حقيقة أنه حينما يعرف أي شخص في العالم أنك أمريكي الجنسية وتقوم بشؤون دولية، يفترض أن آراءك في العالم متعالية ومنافقة وتزدري حقوق الإنسان.
وأوضح بريمر أنه مناهض للسياسة الواقعية، لإيمانه أولًا وقبل أي شيء بضرورة المساواة بين 8 مليارات نسمة في العالم، مشددًا على ضرورة أن يضع الجميع في الحسبان بشكل متساوٍ، وهو ما لم يكن كيسنجر يفعله، عندما كان وزيرًا للخارجية، وهو أمر مؤسف لشخص يمتلك القدرة على فعل المزيد.