من الجنة إلى الجحيم... كيف أصبح السكن الفاخر في تركيا فخًا مميتًا للزلزال؟

وصفت صحيفة فايننشال تايمز مبنى رونيسانز ريزيدنز بعد انهياره، بأنه نُصب سيئ السمعة، مشيرة إلى أن المبنى الذي وُصف بأنه منارة الطموح ذات يوم، أصبح رمزًا للفساد في نظام البناء بتركيا.

من الجنة إلى الجحيم... كيف أصبح السكن الفاخر في تركيا فخًا مميتًا للزلزال؟

ترجمات - السياق

"ركن من الجنة"... تحت هذا الشعار جرى التخطيط لإعادة بناء مدينة أنطاكيا التركية التاريخية، على الطراز الحديث عام 2011، إلا أنه بعد مرور نحو 12 عامًا، جاء زلزال فبراير المدمر ليحول المدينة من الجنة إلى الجحيم، ما أثار تساؤلات عن صلابة هذه المباني الجديدة "الفاخرة" وكيف أصبحت "فخًا مميتًا".

صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، سلطت الضوء على مخطط إعادة بناء المدينة التاريخية، وهل كان ذلك سببًا رئيسًا في تأثرها الشديد بالزلزال، مشيرة إلى أن عدد من الشخصيات المرموقة اجتمعوا في يوم صيفي حار عام 2011 في حفل وضع حجر الأساس لبناء "ركن من الجنة"، المخطط الذي وُضع لتحويل "بستان زيتون قديم إلى مجمع سكني حديث وفاخر"، ما يساعد في تحويل ضواحي أنطاكيا القديمة إلى مدينة براقة.

وحسب الصحيفة، حضر الحفل، وزير العدل التركي آنذاك، وحاكم مقاطعة هاتاي المحلية، وعمدة المدينة، وقائد الشرطة، لوضع حجر الأساس، لافتة إلى أنه أثناء ذلك تفاخر أحد المطورين برؤيته لـ "شيء مختلف"، عبر تأسيس مبانٍ مختلفة "فاخرة وعالية الجودة" في هذا الجزء من جنوبي تركيا.

لكن بعد 12 عامًا على تأسيس مبنى "رونيسانز ريزيدنز" انهار وتحول إلى كومة من الأنقاض.

وحيال ذلك، أوقفت السلطات التركية متعهد المبنى المؤلف من 12 طابقًا، الذي انهار جرّاء الزلزال أثناء محاولته مغادرة البلاد.

ويقدّر أن يكون 800 شخص تحت أنقاض مبنى "رونيسانز ريزيدنز" السكني الذي يضم 250 شقة في هاتاي جنوبي شرق تركيا.

وانهار المبنى السكني الفاخر الذي كان يقدّمه المتعهد عبر شبكات التواصل الاجتماعي على أنه "ركن من الجنة".

 

نُصب سيئ السمعة

وصفت "فايننشال تايمز" مبنى "رونيسانز ريزيدنز" بعد انهياره، بأنه "نُصب سيئ السمعة"، مشيرة إلى أن المبنى الذي وُصف بأنه "منارة الطموح" ذات يوم، أصبح رمزًا للفساد في نظام البناء بتركيا.

وأوضحت أنه رغم انتظار نتائج التحقيقات الجنائية لانهيار المبنى، فإن أربعة من المهندسين الإنشائيين وعددًا من المختصين بالزلازل -الذين راجعوا الأدلة المتاحة بما في ذلك الخطط المعمارية وصور البناء وصور الانهيار- أشاروا إلى احتمال وجود عيب رئيس في التصميم الأساسي وأصل البناء.

لكن -وفق الصحيفة- فإن هذه التقييمات مجرد بداية انتظارًا لنتائج التحقيقات، مشيرة إلى أنه عبر منطقة الزلزال، تجاوز عدد القتلى 44 ألف شخص في تركيا، وما يقرب من 6000 في سوريا، لافتة إلى سحق آلاف منهم في شقق حديثة، لم يتجاوز عمرها 20 عامًا، بُنيت وفقًا لقواعد كان من المفترض أن تجعلها تقف شامخة، حتى بعد أكبر زلزال شهدته تركيا منذ قرن.

فقد تمركز مجمع "رونيسانز" حول ثلاث كتل مترابطة من 12 طابقًا، التي فتحت على حمام سباحة ومحلات تجارية وصالة رياضية ووسائل الراحة المشتركة، كتلك الموجودة في فندق 5 نجوم، حيث بيع كـ"خيار نمط حياة فاخر" لسكانه.

وكان بين السكان، كريستيان أتسو، لاعب كرة القدم الغاني (31 عامًا)، الذي صنع اسمه مع نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي الممتاز قبل التوقيع لنادي هاتايسبور التركي في سبتمبر الماضي.

وكان أتسو قد سجل هدف الفوز في الدقيقة 97 في الليلة التي سبقت الزلزال، وبعد 12 يومًا، انتشلت جثته من تحت الأنقاض.

كان بين القتلى أيضًا لاعب كرة يد وطني، ومصرفي، وطبيب نفسي، ومحام، وضابط شرطة، وطبيب أسنان، وعشرات الأطفال.

بينما يقدر أحد الذين اطلعوا على قوائم بأسماء سكان رونيسانز القتلى بـ 750 شخصًا على الأقل عندما انهار المبنى.

وندد الإعلام التركي ببعض المتعهدين، متهمًا إياهم بأنهم كانوا يستخدمون مواد رديئة، أو لم يحترموا معايير السلامة.

بينما صب الأتراك جام غضبهم، على مطوري العقارات والمهندسين المعماريين، والمهندسين الذين أقاموا منازل تحولت إلى مقابر لكثيرين.

وألقت الشرطة القبض على أكثر من 180 شخصًا، وتبحث عن مئات من هؤلاء المتعهدين.

ووفقًا لوسائل الإعلام الحكومية، ألقي القبض على عامل بناء أثناء فراره في قارب، بينما ألقي القبض على ثلاثة في المطارات، قبل الفرار خارج البلاد.

أحد هؤلاء هو محمد يسار كوشكون، مؤسس مجموعة "أنتيس يابي" التي طورت مبنى رونيسانز، والذي احتُجز -بعد أيام من وقوع الزلزال- في مطار اسطنبول أثناء محاولته صعود طائرة متجهة إلى الجبل الأسود، حيث توجد مكاتب لشركته العائلية هناك.

وأظهرت لقطات أن أربعة ضباط أوقفوا كوشكون وقيدوه، قبل أن يأخذوه إلى مكان مجهول.

وأخبر كوشكون الشرطة بأنه لا يعرف سبب سقوط رونيسانز، وقال إن مسحًا أرضيًا قبل الزلزال، أظهر أنه في "حالة قوية" ، وأنه تم استخدام الخرسانة المسلحة في عملية البناء، وأن الهيكل يتوافق مع قوانين البناء.

بينما قالت محامية كوشكون، كوبرا كالكان جولاكوغلو، إن وسائل الإعلام الحكومية لم تنشر إلا جزءًا ضئيلًا من إفادته للشرطة، رافضة التعليق لحين توجيه تهمة رسمية لموكلها.

 

انتهاكات السلامة

وبينت "فايننشال تايمز" أنه أثيرت مخاوف بشأن تصميم المبنى قبل وقوع الزلزال، ونقلت عن فريد شاهين، الذي توفي شقيقه شاهين وابن أخته أوغور في رونيسانز، قوله، إن عائلته رفعت دعوى قضائية ضد أنتيس يابي عام 2016، بدعوى انتهاكات السلامة بما في ذلك عدم وجود مأوى من الزلزال، والوصول المناسب لمركبات الطوارئ.

إلا أن شركة كوشكون أنكرت ارتكاب أي مخالفة، ما أوقف الدعوى أمام المحاكم.

ويبين فريد شاهين، الذي امتلكت عائلته الأرض التي بُني عليها المجمع، أن الخبراء الذين دعاهم كوشكون شهدوا بعدم وجود مشكلات كبيرة في "رونيسانز".

وحسب الصحيفة البريطانية، شككت عائلة شاهين في سلامة المبنى، لكنهم لم يشكوا في مدى هشاشته.

وفي ذلك، قالت شقيقته جوخان شاهين: "عندما استيقظت على خبر وقوع زلزال، لم أكن قلقة على شاهين، اعتقدت أنه سيكون بأمان طالما بقي في رونيسانز"، مضيفًة: "لم يكن أي منا يتوقع حدوث ذلك".

وذكرت الصحيفة أنه عندما قرر آل شاهين تطوير جزء من بستان الزيتون الذي ورثوه عن والدتهم الراحلة، اختارت العائلة كوشكون، كشخصية مجتمعية محترمة، وعمل رئيسًا لغرفة المهندسين المعماريين في أنطاكيا، لتولي مسؤولية البناء، مشيرة إلى أنهم حصلوا على 90 وحدة من أصل 249 مقابل إتمام البناء.

ورغم حصولهم على 90 وحدة، فإن شاهين شاهين، 55 عامًا، هو فقط من استمر بالعيش في "رونيسانز"، حتى لقي حتفه جراء الزلزال، هو وابن أخيه أوغور (32 عامًا).

 

أسباب الانهيار

وعن أسباب انهيار رونيسانز، نقلت "فايننشال تايمز" عن مهندسين مدنيين ومتخصصين في الزلازل، قولهم: من السابق لأوانه تحديد سبب سقوط مجموعة رونيسانز، لكن هناك إجماعًا على نقطة واحدة، أن "هذه الكتل الحديثة ينبغي ألا تنهار نتيجة الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة، ولا الصدمة الثانية التي بلغت قوتها 7.5 درجة بعد ساعات".

وقال أوغوز جيم جيليك، أستاذ الهندسة الإنشائية وهندسة الزلازل في جامعة اسطنبول التقنية: "يجب أن تقاوم مبانينا تلك القوى الزلزالية... الضرر الجسيم ممكن، لكن الانهيار شيء مختلف"، مضيفًا: "لا يمكننا تصور انهيار مبنى بهذا الشكل، مهما كانت قوة الاهتزاز".

ويرى أنه من النادر أن ينهار مبنى جديد كبير بالطريقة التي حدثت لمجموعة رونيسانز، ما يشير إلى عيوب في الأعمال المعمارية أو الهندسة الإنشائية، أو في عملية البناء ذاتها.

بينما يرى مولود كهرمان، مدير البناء والأعمال الفنية بجامعة بيلكنت في أنقرة، أن القياسات تشير إلى أن القوى التي تهز مجموعة رونيسانز ربما تجاوزت سيناريو الزلزال.

ولكن حتى لو كان من المتوقع حدوث أضرار جسيمة عند شدة الاهتزاز، يجب أن يمنح التصميم الأشخاص -على الأقل- القدرة على الخروج، بحسب كهرمان.

وأوضحت جين ويرنيك، وهي مهندسة إنشائية، أن الشكل المستطيل الرفيع للمبنى كان ينطوي على مخاطر، مشددة على أنه كان يجب زيادة نسبة عرض المبنى بنحو 8: 1 على الأقل، لأن طولها يبلغ قرابة 134 مترًا وعرضها 17 مترًا فقط.

وبينت أن التناسق مهم للمهندسين الذين يصممون مباني في مناطق زلزالية، مشددة على أن "المبنى المربع سيكون أكثر مرونة".

عامل آخر كان سببًا في انهيار المبنى -حسب الصحيفة البريطانية- وهو الأرض تحت "رونيسانز"، مشيرة إلى أن نوع التربة في المنطقة المعرضة للزلازل، يلعب دورًا كبيرًا في استقرار الهيكل، لأنه يحدد كيفية انتقال قوة الهزة.

وأشارت إلى أنه عادةً عند تصميم مبنى جديد، يحاكي المهندسون كيفية تموج قوى الزلازل عبر الأرض، ثم يستخدمون هذه المعلومات لتوجيه تصميم أساس المبنى، لافتة إلى أن التربة الناعمة، التي يمكن أن تضخم موجات الزلزال، شائعة في مقاطعة هاتاي.

بينما كشف أحد حراس الأمن، الذي شهد انهيار "رونيسانز" أن المبنى صمد أمام الاهتزاز 40 ثانية، بينما كانت مدة الزلزال 65 ثانية.

بينما قال أليساندرو مارغنيلي، المدير الفني في شركة الهندسة المدنية آكت تو ومقرها لندن، إن إحدى نقاط الضعف المحتملة قد تكون في الركائز، حيث حفر الهياكل من 15 إلى 20 مترًا في أساسات الأرض، للمساعدة في تعزيز الاستقرار الهيكلي للمبنى.

ووفقًا لكهرمان، ستكون المواد المستخدمة أيضًا حاسمة، مشيرًا إلى أنه عادةً ما تحتوي الخرسانة المستخدمة في المباني الكبيرة على قضبان حديد التسليح -خصوصًا في المناطق المعرضة للزلازل- لأن المباني قد تتأرجح على أساسها نتيجة للاهتزاز.

بعد الزلزال، وصف أحد أقارب أحد الضحايا المبنى بأنه كاد "ينكسر" قبل أن ينهار جانبيًا، مضيفًا: "لقد تُركت كومة ضخمة من الأنقاض مع هيكل عظمي لمبنى عملاق فوقها، ما جعل عملية الإنقاذ صعبة للغاية".

كان البنك الدولي أعلن عام 2021 أن ما يقدر بنحو 6.7 مليون مبنى سكني في تركيا بحاجة إلى التعديل التحديثي أو إعادة البناء لتلبية المعايير الحديثة، وهي عملية ستكلف 465 مليار دولار.

وقد واجه الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي أشرف على طفرة البناء خلال عقدين من حكمه، رد فعل عنيفًا بسبب التراخي في تطبيق قوانين البناء، خصوصًا أنه أصدر عفوًا عامًا عام 2018 على المباني التي شُيدت من دون شهادات السلامة المطلوبة.

ويرى الجيولوجي التركي جلال سينغور أن تمرير هذا العفو عن البناء في بلد تمزقه خطوط الصدع، يصل إلى أن يكون "جريمة".

في غضون ذلك، قال حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيس إنه سيبدأ تحقيقًا داخليًا بالبلديات التي يسيطر عليها في منطقة الزلزال، بما في ذلك أنطاكيا، لتحديد ما إذا كان المسؤولون المحليون قد فشلوا في الالتزام بمعايير البناء.

كانت أغلبية المباني المتضررة من الممتلكات القديمة، شُيدت قبل عام 2000، وفقًا لدراسة منفصلة أجرتها جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة.

وقد وُضعت مجموعة من القواعد الصارمة ومتطلبات المراقبة بين عامي 1998 و2001، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الزلزال المدمر الذي ضرب شمالي غرب تركيا عام 1999، ما أسفر عن قتل ما لا يقل عن 17000 شخص.

وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أنه رغم النظام الأكثر صرامة، فإن أكثر من ألف مبنى شيدت بعد عام 2000، بما في ذلك "رونيسانز"، الذي افتتح عام 2013، انهار أو تضرر بشدة في تركيا نتيجة لزلزال 6 فبراير.

وخلص الباحثون إلى أن "هذه على ما يبدو ملاحظة مهمة تتطلب مزيدًا من التحقيقات في جودة التصميم والبناء لتلك المباني".