على أرض تشاد... حرب باردة صامتة بين أمريكا وروسيا
التهديدات التي تواجهها تشاد، تأكدت من خلال وثائق المخابرات الأمريكية المسربة، التي تصف محاولة مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية في فبراير الماضي لتجنيد المتمردين التشاديين وإنشاء موقع تدريب لـ 300 مقاتل في جمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة، كجزء من مؤامرة آخذة في التطور لإسقاط الحكومة التشادية.

ترجمات - السياق
خطوة وراء خطوة، يتزايد النفوذ الروسي في إفريقيا، وسط مخاوف غربية من اتساع هذا النفوذ، بما لا يمكن صده ولا ردعه، وما يزيد هذه المخاوف أن موسكو تضع نصب عينيها الدول ذات الأهمية الاستراتيجية، ومن هذه الدول تشاد.
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، سلطت الضوء على هذه المخاوف، مشيرة إلى أن المسؤولين الغربيين يشعرون بقلق متزايد بشأن استقرار تشاد، الدولة الواقعة وسط إفريقيا، التي كانت أحد أهم شركاء الولايات المتحدة الأمنيين، في منطقة تواجه نفوذًا روسيًا متزايدًا وعديدًا من حركات التمرد المتطرفة.
وبينت أن التهديدات التي تواجهها تشاد، تأكدت من خلال وثائق المخابرات الأمريكية المسربة، التي تصف محاولة مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية في فبراير الماضي لتجنيد المتمردين التشاديين وإنشاء موقع تدريب لـ 300 مقاتل في جمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة، كجزء من "مؤامرة آخذة في التطور لإسقاط الحكومة التشادية".
وحسب الصحيفة الأمريكية، توضح الوثائق التي لم يبلغ عنها، مناقشة -جرت قبل أيام- بين زعيم فاغنر، يفغيني بريغوزين، ورفاقه بشأن الجدول الزمني والتسهيلات لتدريب مجموعة أولية من المتمردين في أفاكابا، بالقرب من الحدود التشادية، والطريق الذي ستستخدمه "فاغنر" لنقلهم.
رد صامت
ورغم هذه التقارير، فإنها قوبلت بـ"رد صامت" من الولايات المتحدة، وبعض الحكومات الغربية، إذ لم تحرك واشنطن وحلفاؤها ساكنًا تجاه ما سمته واشنطن بوست "القمع التشادي المتزايد في الداخل، وعلى الأخص قتل عشرات المتظاهرين السلميين على أيدي قوات الأمن في أكتوبر الماضي".
في ذلك الوقت، قال مسؤولون تشاديون إن 50 شخصًا لقوا مصرعهم، لكن لجنة حقوق الإنسان التشادية أفادت بقتل ما لا يقل عن 128 شخصًا، بينما يعتقد بعض المدافعين عن حقوق الإنسان أن العدد أكبر من ذلك بكثير.
ونقلت الصحيفة الأمريكية، عن محللين متخصصين في الشأن التشادي، قولهم: الجدل بشأن إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل في تشاد، وما إذا كان ذلك يمكن أن يعرض المصالح الأمنية في إفريقيا للخطر، يُجسد التحديات التي تواجه صانعي السياسة الأجانب الغربيين، الذين يسعون إلى دعم الحكومات الحليفة، وتعزيز القيم الديمقراطية في هذه المنطقة.
ويشير المحللون إلى أن حملة روسيا لإظهار نفوذ أكبر في إفريقيا زادت هذه المخاطر.
ففي رسالة شديدة اللهجة إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين الشهر الماضي، قال السناتور روبرت مينينديز (ديمقراطي من نيوجيرسي)، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إنه "قلق للغاية بسبب عدم وجود استجابة أمريكية واضحة وعلنية" ضد عمليات قتل المتظاهرين التي جرت في أكتوبر، إضافة إلى استمرار الدعم الأمريكي للجيش التشادي.
وكتب مينينديز في رسالته، أن الخطر الذي لم يبلغ عنه "سبب تصور أن الولايات المتحدة مستعدة للشراكة مع الأنظمة التي لا تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان ما دامت هذه الأنظمة توافق على التعاون في مكافحة الإرهاب والتصدي للنفوذ الروسي الخبيث".
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن ميشيل غافين، الخبيرة في شؤون إفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، قولها: السياسة الخارجية للولايات المتحدة بحاجة إلى تأكيد أن الجهود المبذولة لتعزيز الأمن والديمقراطية واحدة ولا يمكن فصلها.
وأشارت إلى أن ما سمته "قمع تشاد" لمواطنيها، علامة على الضعف الداخلي للحكومة، ويثير التساؤل عن متانة هذه الشراكة الأمنية، مضيفة: "لقد فشلنا في حساب استقرار الدولة التشادية".
وبينت الصحيفة الأمريكية، أن التمرد في تشاد يعود لعقود، مشيرة إلى أن هذه الدولة المترامية الأطراف، التي يبلغ عدد سكانها 16 مليون نسمة، تضم عشرات الجماعات العِرقية التي تتنافس على السلطة.
وذكرت أن الرئيس السابق إدريس ديبي -الذي قُتل عام 2021 في ساحة المعركة- نجح في إخماد حركات تمرد متعددة خلال فترة حكمه التي استمرت 30 عامًا، وأحيانًا بدعم من فرنسا، المستعمر السابق لتشاد.
بينما يقود تشاد حاليًا نجل ديبي، الجنرال محمد إدريس ديبي إيتنو، منذ عام 2021.
تغير كبير
ورأت "واشنطن بوست" أن الأوضاع تغيرت بنسبة كبيرة عما كانت عليه إبان حكم إدريس ديبي الأب، موضحة أن سبب هذا التغيير التدخل الروسي، الذي اتسع في إفريقيا مع تراجع شعبية فرنسا داخل القارة السمراء.
ونقلت عن دبلوماسي غربي في تشاد، تحدث مثل غيره من الدبلوماسيين، بشرط عدم كشف هويته، لمناقشة قضايا السياسة الخارجية الحساسة، قوله: تشاد تواجه احتمال وقوع انقلاب داخلي، إضافة إلى تهديدات من متمردين متمركزين على حدودها في ليبيا والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وأشار إلى أن مجموعة فاغنر شبه العسكرية، ترتبط بعلاقات قوية مع القوات المسلحة أو الميليشيات في هذه الدول.
بينما قال دبلوماسي غربي: "لديهم آلاف الأسباب للقلق" في إشارة إلى التهديدات الموجهة ضد الحكومة التشادية من خارج البلاد وداخلها، مبينًا أن المسؤولين الغربيين يراقبون التطورات، وأنهم "قلقون بشكل متزايد".
وحسب الصحيفة، تكشف وثائق المخابرات الأمريكية المسربة أن الجهود المبذولة لإثارة تمرد في تشاد، جزء من حملة أوسع من قِبل بريغوزين، لإنشاء اتحاد كونفدرالي موحد للدول الإفريقية، عبر اتساع القارة، بما في ذلك بوركينا فاسو وتشاد وإريتريا وغينيا ومالي والنيجر والسودان.
وتبين إحدى الوثائق أنه "خلال العام الماضي، عمل بريغوزين على تسريع عمليات "فاغنر" في إفريقيا، وتحويل نهجه من الاستفادة من الفراغات الأمنية إلى تسهيل عدم الاستقرار عن قصد".
يذكر أن هذه الوثائق جزء من مجموعة من الصور لملفات سرية نُشرت على موقع ديسكورد الأمريكي، يُزعم أن أحد أعضاء الحرس الوطني الجوي بولاية ماساتشوستس هو الذي نشرها.
كانت المخابرات التشادية قد كشفت أن تشاديين سافروا أواخر فبراير إلى بانغي، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى، بناءً على دعوة "فاغنر" للمساعدة في تجنيد مقاتلين من تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى، في مؤامرة ممولة من "فاغنر" لزعزعة استقرار النظام التشادي، حسب الوثائق.
وأشارت الوثائق إلى أن التشاديين -لم تذكر اسميهما- استقبلهما وزير الدفاع رامو كلود بيرو من جمهورية إفريقيا الوسطى، الذي كان يعمل مع شركة فاغنر منذ عام 2018 في فندق ليدغر بلازا بانغي.
وأشارت إلى أن التشاديين كانا يعملان مع حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى، لإقناع المتمردين من أصل تشادي جنوبي على وجه التحديد، بالعمل جنبًا إلى جنب مع "فاغنر".
وتعليقًا على هذه الاتهامات، رد بريغوزين -حسب الصحيفة الأمريكية- بكلمات بذيئة وقال إن التقارير عن تورطه في تمرد مخطط في تشاد "مجرد هراء".
أما وزير الاتصالات التشادي عزيز محمد صالح، فرغم تجاهله للمعلومات الاستخباراتية الأمريكية، فإنه قال بمقابلة في نغامينا هذا الشهر إن الحكومة تدرك أن "عديد الشباب التشاديين انضموا إلى (فاغنر) في جمهورية إفريقيا الوسطى".
وقال صالح إن بلاده ليست لديها مشكلة مع روسيا، لكنها لا تقبل جهود "فاغنر" الظاهرة للتدخل في السياسة الداخلية لتشاد، مشيرًا إلى أن "فاغنر" ظهرت في دول إفريقية أخرى، عندما احتاجت حكوماتها المساعدة في الاحتفاظ بالسلطة، وهو ما قال إنه لن يكون كذلك في بلاده، مضيفًا: "يمكننا الدفاع عن أنفسنا".
وفي فبراير الماضي، ذكرت "وول ستريت جورنال" الأمريكية، أن الولايات المتحدة شاركت معلومات استخباراتية مع السلطات في تشاد، تشير إلى أن "فاغنر" كانت تخطط لاغتيال ديبي.
وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة "ملتزمة بعملية انتقال ديمقراطي في تشاد" وتواصل الضغط لإطلاق سراح 150 سجينًا سياسيًا.
وأشار إلى أنه رغم أن تشاد كانت "شريكًا مهمًا" في عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد، فإن ذلك ليس له أي تأثير في وجهات نظر الولايات المتحدة بشأن الحاجة طويلة الأمد للإصلاح الديمقراطي في تشاد.
بينما قال متحدث باسم القيادة الأمريكية في إفريقيا، التي تشرف على العمليات العسكرية في القارة، إن تشاد كانت "شريكًا مهمًا للغاية في مكافحة الإرهاب" ومن ثمّ فإنها تتفهم جيدًا المخاطر التي تمثلها "فاغنر" على الدول الإفريقية.
دماء تشادية
وبينت "واشنطن بوست" أن التوترات تصاعدت في تشاد، عندما خرج آلاف المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية إلى الشوارع بنغامينا في 20 أكتوبر 2022، لمعارضة خطة الحكومة، لتمديد قبضتها على السلطة عامين آخرين.
وردت القوات الأمنية بإطلاق الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية على المتظاهرين، ومطاردتهم داخل المنازل واعتقال مئات.
ووصفت الصحيفة الأمريكية هذه الأحداث بأنها "كانت أكثر الأيام دموية في تشاد منذ عقود".
ويتذكر طبيب شاب سماعه طلقات نارية تبعها صراخ، ثم بدأ العشرات من الشبان والشابات الجرحى التدفق إلى المستشفى التي يعمل بها في نغامينا.
وقال الطبيب، بشرط عدم كشف هويته خوفًا من الانتقام، إنه رأى 10 جثث على الأقل في غرفة الطوارئ، مشيرًا إلى أنه كان هناك كثير من الجرحى، لدرجة أن المستشفى كان "مكتظًا".
بينما قالت دلفين جيرايبي، محامية حقوق الإنسان التشادية، التي وفرت الحماية للمتظاهرين الشباب بمنزلها في نغامينا: "كان هناك كثير من الجثث في المشرحة، لدرجة أنها تعفنت قبل أن تتمكن عائلاتها من جمعها ودفنها بشكل لائق".
ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي غربي ثالث قوله: ذلك اليوم يُمثل نقطة تحول في تشاد، موضحًا أن أي أمل في أن يكون ديبي الابن أكثر انفتاحًا على الديمقراطية من والده تبدد.
من جانبه، أكد وزير الاتصالات عزيز محمد صالح، أن الحكومة ملتزمة بإجراء انتخابات 2024 وتركز على جعل تشاد دولة أكثر شمولاً.
في ذلك اليوم المأساوي من أكتوبر، نشرت السفارة الأمريكية في نغامينا صورة للسفير ألكسندر لاسكاريس راكعًا على رصيف ملطخ بالدماء، بينما حثت وزارة الخارجية حينها "جميع الأطراف على تهدئة الموقف والالتزام بضبط النفس".
لكن في الأشهر التي تبعت ذلك، التزمت الحكومة الأمريكية الصمت إلى حد كبير بشأن عمليات القتل.
وأشار مينينديز في رسالته إلى بلينكين، إلى أن الولايات المتحدة لم تفرض قيودًا على السفر ولا عقوبات على المسؤولين عن العنف، كما حدث في أعقاب مذبحة عام 2009 على أيدي قوات الأمن في غينيا.
وبيّن في رسالته، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لم تدن استيلاء ديبي على السلطة "بانقلاب" ، وإنما دعته إلى واشنطن لحضور "قمة إفريقيا" العام الماضي.
وهو ما فسره ريمادغي هويناثي، الباحث في معهد الدراسات الأمنية في نغامينا، بأنه "لعبة مساومة" عالية المخاطر بين واشنطن والغرب، قائمة على أن "يصمت الغرب عن انتهاكات حقوق الإنسان مقابل الحصول على دعم تشاد في محاربة الإرهاب وضد التوسع الروسي بالقارة".