قنبلة ماكرون... استقلال أوروبا الاستراتيجي يهز القارة العجوز

أثار ماكرون الجدل في الولايات المتّحدة وأوروبا بدعوته الاتّحاد الأوروبي إلى ألا يكون تابعاً لواشنطن أو بكين في قضية تايوان.

قنبلة ماكرون... استقلال أوروبا الاستراتيجي يهز القارة العجوز

ترجمات – السياق

"أكبر خطر تواجهه أوروبا هو التورط في أزمات لا علاقة لها بها، ويجب أن تقاوم الدول الأوروبية الضغوط التي تسعى لتحويلها إلى تابعة للولايات المتحدة"... تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أثناء عودته من رحلة استمرت ثلاثة أيام إلى الصين، كشفت انقسامات حادة بين دول الكتلة بشأن التعامل مع بكين.

وفي مقابلة مع صحيفة بوليتيكو الأمريكية، بطائرته وهو عائد من بكين، بعد عقده اجتماعات استمرت أكثر من 6 ساعات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، رأى الرئيس الفرنسي أن على أوروبا أن تقلص ارتباطها بالولايات المتحدة، وأن تتجنب أي مواجهة محتملة بين الصين والولايات المتحدة.

وقال: "على دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي خارج الحدود الإقليمية"، وأكد مجددًا نظرية الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، التي من المفترض أن تقودها فرنسا، لتصبح "قوة عظمى ثالثة".

وتعليقًا على ذلك، يرى الكاتب آلان بيتى، المتخصص في الشؤون التجارية والعولمة، في تحليل نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أنه إذا كان ماكرون محقًا من حيث المبدأ في تأكيد الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة خلال رحلته الأسبوع الماضي إلى الصين، فإن الشكوك التي أثارها الرئيس الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي، تركته بعيدًا أكثر من أي وقت مضى.

وأوضح أن تركيز ماكرون في الإبقاء على مسافة بين واشنطن وبكين سعيًا إلى "الاستقلال الاستراتيجي" المراوغ للاتحاد الأوروبي، ليس ابتكارًا جديدًا بين صانعي السياسة الأوروبيين، إذ قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي رافقت ماكرون في رحلته، أشياء مماثلة، رغم تداخلها مع نبرة تشكك أكثر في الصين.

ويرى الكاتب، ان المتحمسون لأوروبا الجيوسياسية بحاجة إلى الاعتراف بأن النقص في الوحدة والثقة داخل الاتحاد الأوروبي، بدلاً من التلاعب الشرير من قِبل واشنطن وبكين، هو العقبة الرئيسة.

 

السياسة التجارية

وذكر بيتي، أن أحد المجالات التي يتمتع فيها الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة بالقدرة على التصرف بشكل جماعي هي "السياسة التجارية"، مشيرًا إلى أنه بالطريقة نفسها التي لا يوجد بها ما يمنع الحكومات الأوروبية من زيادة الإنفاق العسكري ولعب دور جيوسياسي أكبر، يمكن للاتحاد الأوروبي بالتأكيد زيادة قدرته على استخدام التجارة لإظهار نفوذه الاستراتيجي.

لكن بينما كانت فرنسا حريصة على إنشاء أدوات جديدة للتدخل في التجارة والاستثمار، فإن الدول الأعضاء تدرك أن آراء ومصالح باريس ليست بالضرورة تُمثل آراء ومصالح الكتلة.

ففي السنوات الأخيرة، صممت المفوضية الأوروبية بعناية مجموعة من الأدوات التجارية، لتأكيد الثقل الجغرافي الاقتصادي للكتلة.

وكان الأكثر بروزًا من الناحية السياسية، أداة مكافحة الإكراه (إيه سي آي)، التي ستسمح للاتحاد الأوروبي باستخدام مجموعة من تدابير التجارة والاستثمار، للرد على التنمر من الشركاء التجاريين.

وأوضح الكاتب، أن فرنسا دعمت بقوة هذا النشاط، ودعت أيضًا إلى إنشاء صناديق مركزية جديدة للاتحاد الأوروبي لمتابعة السياسة الصناعية.

لكن المفوضية ستكافح لاستخدام هذه المجموعة من الأدوات إذا كانت هناك معارضة من الدول الأعضاء، التي تضع في اعتبارها مصالحها التصديرية، أو عدم الثقة في استخدام الأدوات التجارية لإدارة سياسة استراتيجية مركزية.

ونوه الكاتب إلى أنه قبل أيام من رحلة ماكرون، استسلمت المفوضية لضغط بعض حكومات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا، ومنحت الدول الأعضاء دورًا كبيرًا في تحديد استخدام (إيه سي آي).

وأشار إلى أنه حتى مع وجود حزب الخضر المعارض للصين داخل الائتلاف الحاكم الحالي في ألمانيا، فإن برلين تتجنب -بشكل غريزي- المواجهة التي قد تلحق الضرر بالصادرات والاستثمارات الألمانية في الخارج.

كانت هناك اعتراضات أخرى من حيث المبدأ، من دول ليبرالية أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بينها السويد وجمهورية التشيك.

وتساور هذه الدول الشكوك في محاولات لتسييس السياسات التجارية واحتمال تأثرها بشكل كبير من حكومات بعينها .

 

إرث من الحذر

ويرى الكاتب آلان بيتى، أن ماكرون ساعد -عن غير قصد- في تأجيج هذه المخاوف، لافتًا إلى أنه كان قد أثار قلق بعض الحكومات الأخرى في الاتحاد الأوروبي قبل عامين، بعد توجهه الواضح لصفقة استثمارية رئيسة مع الصين ، ما "ترك إرثًا من الحذر".

وفي ما يعد أكثر محاولات الصين والاتحاد الأوروبي شمولاً حتى الآن، لوضع العلاقات الاقتصادية بينهما على أرضية صلبة، أعلن الجانبان، في 30 ديسمبر 2020، التوصل إلى اتفاقية استثمار "تاريخية" بينهما.

جاء إعلان الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، بعد اجتماع عبر الفيديو بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.

وأوضح الكاتب أن توقيع الاتفاقية الشاملة للاستثمار (سي إيه آي)، التي بدأت المفاوضات بشأنها عام 2014، كان مدعومًا من إدارة المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل، والدفع لتوقيعها قبل انتهاء رئاسة ألمانيا للمجلس الأوروبي، التي استمرت ستة أشهر عام 2020.

ورغم أن ماكرون دافع عن حقوق العمال الصينيين في تصريحات سابقة -تأكيدًا للقيم الأوروبية في هذا الشأن- فإنه سرعان ما انضم إلى هذا المؤتمر عبر الفيديو، لتوقيع الصفقة مع ميركل وفون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل والرئيس الصيني شي جين بينغ.

وتهدف الاتفاقية، إلى استبدال أكثر من عشرين معاهدة استثمار ثنائية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 والصين.

كان من المتوقع أن تفتح هذه الاتفاقية مساحة أكبر بكثير للشركات الأوروبية والصينية، لتوسيع أعمالها في أسواق بعضها، حيث من المنتظر أن توفر هذه الاتفاقية للشركات الأوروبية فرصًا استثمارية ضخمة في الصين، خاصة في (خدمات النقل البحري والجوي، والتمويل، والكمبيوتر، والأبحاث والتطوير، والسيارات ذات المحركات البديلة، والاتصالات، وخدمات الحوسبة السحابية، وكذلك في مجال تشغيل المستشفيات الخاصة).

كما كان من المرجح أن تزيل الاتفاقية كثيرًا من القيود أمام الشركات الأوروبية للوصول إلى السوق الصينية، بما في ذلك متطلبات الترخيص الصينية وحدود الملكية الأجنبية في قطاعات معينة.

إلا أنه -حينها- رفضت حكومات أخرى في الاتحاد الأوروبي، مشاركة فرنسا "ثقتها المفاجئة" في حقوق الإنسان بالصين، وإقدامها على توقيع الصفقة، بل وشعرت بالقلق من التهديد الذي قد تشكله هذه الصفقة على العلاقات الدبلوماسية الأوروبية مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي كانت تستعد لدخول البيت الأبيض.

وبالفعل، انتقدت إيطاليا الترويج الذاتي لماكرون خلال مؤتمر الفيديو.

إثر ذلك، علق البرلمان الأوروبي التصديق على اتفاقية التعاون الدولي، على خلفية عقوبات فرضتها بكين على نواب أوروبيين، ردًا على إجراءات أوروبية مشابهة.

وأشار الكاتب إلى أن هذا القرار أثر في سياسة الاتحاد الأوروبي التجارية تجاه الصين، وزاد الشكوك بين الدول الأعضاء في أسباب المحاولة الفرنسية الألمانية لإعادة هذه العلاقات.

من جانبها، اعترفت أورسولا فون دير لاين -مؤخرًا- بأنه لا يمكن تمرير الصفقة في شكلها الحالي.

وبيّن الكاتب، أنه إذا كانت المبادرات الاستراتيجية أو الجيوسياسية الأخرى للاتحاد الأوروبي لا تعاني مصير (الاتفاقية الشاملة للاستثمار)، فإن أولئك الذين يقودونها يحتاجون إلى مزيد من العمل الأساسي لبناء الوحدة الأوروبية قبل توقيع الصفقة.

وأضاف: "يبدو أن تصريحات ماكرون الأسبوع الماضي، كان لها تأثير معاكس في السياسة الأوروبية تجاه الصين"، مشددًا على أن محاولة دفع اتحاد يحتوي على آراء متباينة، إلى تبني نهج واحد لقضية عالمية محددة، ليس من المرجح أن يحصل على نتائج ثابتة ودائمة.