أسوأ من الركود العظيم... هل بدأ انهيار الاقتصاد الأمريكي؟
وصف مايك زافاروني، الأوضاع الاقتصادية الأخيرة بأنها أسوأ من الأيام الأولى للركود العظيم -الذي شهدته الولايات المتحدة قبل أكثر من عقد من الزمان- والإغلاق الجماعي الناجم عن الوباء العالمي عام 2020 معًا

ترجمات - السياق
يحبس الأمريكيون أنفاسهم، بانتظار الاجتماع -غير التقليدي- لبنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي)، المقرر الثلاثاء والأربعاء 13 و14 يونيو الجاري، وما تسفر عنه نتائجه، فهل ينجح البنك في الخروج من مأزق التضخم، مع ضرورة تثبيت أسعار الفائدة، أم أن الأمور قد تسوء أكثر، ما يمهد لضربات موجعة للاقتصاد الأمريكي؟
أهمية هذا الاجتماع، تأتي من أنه الأول بعد أزمة سقف الدين في الولايات المتحدة -البالغة 31.4 تريليون دولار- التي انتهت في اللحظات الأخيرة، قبل اقتراب الاقتصاد الأمريكي من حافة الهاوية، عدا التوقعات بتثبيت سعر الفائدة لأول مرة هذا العام.
كان معدل الفائدة في الفيدرالي الأمريكي، قد وصل إلى بين 5 و5.25% بعد ارتفاعات بدأت في مارس 2022 ومستمرة حتى الآن، لكبح جماح التضخم الذي ارتفع بشكل كبير العام الماضي، ووصل لأعلى مستوياته في نحو أربعة عقود.
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، سلطت الضوء على أهمية هذا الاجتماع، خصوصًا أن عديد الشركات، تنتظر ما يسفر عنه، بعد أن تعرضت لخسائر فادحة خلال الأشهر الماضية.
من هذه الشركات "ليبرتي لاند سكيب سابلاي"، التي يعود تأسيسها إلى نحو 16 عامًا، إلا أنها لم تواجه تحديات كتلك التي واجهتها مؤخرًا، من حيث التكاليف المرتفعة، واختناقات سلسلة التوريد، والنقص الحاد في العمال.
الركود العظيم
ووصف مايك زافاروني، رئيس الشركة الواقعة شمالي شرق فلوريدا، الأوضاع الاقتصادية الأخيرة بأنها "أسوأ من الأيام الأولى للركود العظيم -الذي شهدته الولايات المتحدة قبل أكثر من عقد من الزمان- والإغلاق الجماعي الناجم عن الوباء العالمي عام 2020 معًا".
ورغم هذه المصاعب -التي زادت وتيرتها بسبب الزيادات السريعة في أسعار الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي- استمر العملاء في التدفق على منافذ البيع الخاصة بالشركة، وقفزت الإيرادات 16 في المائة عام 2022 مقارنةً بالعام السابق، ونتيجة لذلك افتتحت الشركة مقرًا جديدًا.
وأرجعت "فايننشال تايمز" ذلك إلى أن فلوريدا تعد من أقوى اقتصادات البلاد، حيث شهدت الولاية تدفقًا هائلاً من السكان خلال السنوات الأخيرة، بفضل الطقس المعتدل وعدم وجود ضريبة على الدخل، فضلًا عن أنها تقود الأمة من حيث صافي الدخل المهاجر.
وأشارت إلى أن تطبيقات الأعمال ازدهرت أيضًا، ما جعلها من أكثر الأماكن شعبية لفتح متجر أو سلسلة توريد، ما ساعد في الحفاظ على معدل البطالة عند 2.6 في المئة، وهو رقم أقل بكثير من المتوسط الوطني البالغ 3.7 في المئة.
ونوهت الصحيفة إلى أنه بينما تتمتع فلوريدا بخلفية اقتصادية فريدة من نوعها، فإن متانة اقتصادها تجسد اتجاهًا وطنيًا أثار حيرة صانعي السياسة، الذين يسعون إلى كبح الطلب للقضاء على التضخم المرتفع.
ولكن مع الثقل الجماعي لجهود تشديد السياسة النقدية القوية للبنك المركزي الأمريكي حتى الآن، والتراجع المستمر من المقرضين الإقليميين، في أعقاب حالات فشل البنوك، فإن هناك مخاوف متزايدة من أن مرونة الاقتصاد الأمريكي بدأت الانهيار، وفق الصحيفة البريطانية.
وبصفته صاحب شركة صغيرة، يعلق زفاروني على ذلك قائلًا إنه "قلق دائمًا" بشأن المستقبل، محذرًا من أن النصف الثاني من عام 2023 قد يصبح أضعف من حيث المبيعات والإيرادات.
وأضاف: "لسنا شركة تكنولوجيا كبرى من سان فرانسيسكو تعيش على أبخرة الأسهم الخاصة أو رأس المال الاستثماري، وإنما نحن شركة تعتمد على رأس المال، حتى نواصل الاستثمار في البنية التحتية والمعدات والمخزون والأشخاص، لذا فإن ارتفاع تكلفة رأس المال يجعلنا ننمو بشكل أبطأ فترة غير محددة من الوقت".
انزعاج كبير
وأوضحت "فايننشال تايمز" أن انكماش الاقتصاد شيئًا فشيئًا نحو الركود، أصبح مشكلة تزعج المسؤولين في بنك الاحتياطي الفيدرالي، منذ أن بدأوا رفع أسعار الفائدة بقوة في مارس 2022.
فخلال ما يزيد قليلاً على عام، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعره القياسي بأكثر من 5 نقاط مئوية إلى أعلى مستوى منذ عام 2007 ، وهي تغييرات تستغرق وقتًا للتأثير في الاقتصاد.
الآن، يواجه جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، مهمة شاقة تتمثل في صياغة إجماع عبر لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، التي تتبنى وجهات نظر متفرقة عن السرعة التي يتراجع بها التضخم، وتأثير الضغوط المصرفية الأخيرة ومدى قرب الاقتصاد من حافة الهاوية.
ونقلت الصحيفة عن لوريتا ميستر، رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، قولها: إننا نصل إلى الجزء الصعب بشأن كيفية تقييمنا للمقايضات، مشيرة إلى أنها لا ترى أي سبب مُقنع لوقف سياسة التشديد النقدي فترة مؤقتة.
ودعت ميستر إلى مزيد من رفع أسعار الفائدة قبل التوقف فترة محددة، حتى تقليل حالة عدم اليقين في الاقتصاد الأمريكي.
ورغم أن التقدم في خفض التضخم كان بطيئًا، فإن المركزي الأمريكي يفكر في اتباع نهج أكثر صبرًا.
ومن المتوقع التخلي عن مزيد من التشديد في اجتماع السياسة هذا الأسبوع، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام زيادات جديدة إذا لزم الأمر.
وهو ما أكده باول، قائلًا إن بنك الاحتياطي الفيدرالي يمكنه "تحمل" النظر في البيانات وإجراء "تقييمات دقيقة".
لكن بالنسبة لتشارلز إيفانز، الذي تقاعد من بنك الاحتياطي الفيدرالي في يناير بعد 15 عامًا رئيسًا لبنك شيكاغو، فإن المناقشات تتلخص في سؤال واحد: "ما الخطأ السياسي الذي ترتاح أكثر لارتكابه؟
المركبات الترفيهية
من الصناعات التي تأثرت بالركود خلال الفترة الأخيرة، صناعة المركبات الترفيهية، التي تراجعت مبيعاتها بشكل حاد.
وفي ذلك، يرى مايكل هيكس، أستاذ الاقتصاد في جامعة بول ستيت بولاية إنديانا، أن مبيعات المركبات الترفيهية تتفوق على الاقتصاديين في توقع حالات الركود.
فقد انخفضت المبيعات والشحنات، وسجل التوظيف بمدينة إلخارت -مقر صناعة المركبات الترفيهية- أكبر انخفاض على أساس سنوي بين أكبر المقاطعات الأمريكية، في الربع الأخير من عام 2022.
ومع ذلك، يتوقع هيكس أن ينمو الاقتصاد الأمريكي في أحسن الأحوال بمعدل سنوي 0.5 في المئة هذا العام، إلا أنه يحذر من أنه قد يُسجل انكماشًا بنسبة 0.5 في المئة.
لكن -وفق فايننشال تايمز- ما أبقى الاقتصاد واقفًا على قدميه بعيدًا عن قبضة الركود حتى الآن هو سوق العمل، الذي عاد من أعماق الوباء وأظهر قوة مدهشة، حيث أدى نقص العمال إلى تغذية المنافسة الشديدة بين أرباب العمل، ورغم موجات تسريح العمال في سيليكون فالي ووول ستريت، لا تزال الشركات عبر مجموعة واسعة من الصناعات، توظف بأعداد كبيرة، وارتفع عدد الوظائف الشاغرة مرة أخرى بعد التراجع الأخير، بينما لا يزال معدل استقالة الأمريكيين مرتفعًا أيضًا.
وأشارت الصحيفة إلى أنه على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، بلغ متوسط مكاسب الوظائف نحو 280 ألف وظيفة، وهي وتيرة شهرية قوية، لكنها أقل بكثير من الزيادة البالغة 400 ألف تقريبًا المسجلة في الوقت نفسه من العام الماضي.
ورغم أن مُعدل البطالة لا يزال منخفضًا تاريخيًا، فقد ارتفع في مايو، حيث قفز 0.3 نقطة مئوية إلى أعلى مستوى في سبعة أشهر عند 3.7 في المئة.
وأطلقت أكثر من اثنتي عشرة ولاية إشارات تحذير، ما أدى إلى إطلاق ما تسمى قاعدة سام، نسبة إلى الخبيرة السابقة لدى البنك الفيدرالي الأمريكي "كلوديا سام" التي ابتكرتها لكي تبرز بدء الركود بوتيرة أسرع مما يراه المسؤولون الرسميون.
وتنص القاعدة على أنه حين يرتفع المتوسط المتحرك لمعدل البطالة ثلاثة أشهر نصف نقطة مئوية من أدنى مستوياته، فإن الاقتصاد يكون قد دخل في ركود.
وتنطبق قاعدة سام تقليديًا على البطالة الوطنية، وليس البيانات على مستوى الولاية، التي يمكن أن تتشوه بأحجام عينات صغيرة، لكن الاتجاه يشير إلى أن ظروف سوق العمل خفت، ومع ذلك، فإن الضعف ليس واسع النطاق، ويحتاج إلى تكثيفه حتى تتحقق أسوأ التكهنات.
وقد تراجعت مكاسب الأجور بالتوازي، ما قدم بعض الراحة لصانعي السياسات القلقين من أن الارتفاع السريع في الأجور يضغط على الشركات لكي ترفع الأسعار.
ومع ذلك، في الوقت الحالي، يواصل المستهلكون الإنفاق، مدعومين بمخزونات المدخرات التي تراكمت في وقت مبكر من الوباء، حيث ضخت الحكومة الفيدرالية 5 تريليونات دولار لدعم ميزانيات الأسرة.
ورغم كثافة الاستهلاك، فإن الاقتصاديين في بنك الاحتياطي الفيدرالي بسان فرانسيسكو يقدرون أنه لا يزال هناك نحو 500 مليار دولار من المدخرات الفائضة الإجمالية في الاقتصاد، التي تدعم إنفاق المستهلكين على الأقل حتى نهاية عام 2023.
وفي إشارة إلى أن الشركات مترددة بشأن المستقبل، انخفضت الطلبات المقدمة من المصانع الأمريكية للآلات وغيرها من "السلع الرأسمالية الأساسية"، التي تستثني الطائرات والمعدات العسكرية، إلى أقل من الشحنات على أساس متوسط متحرك ثلاثة أشهر.
كما أن حالات التخلف عن السداد آخذة في الارتفاع، مع تخلف مزيد من الناس عن السداد.
وبينت الصحيفة أنه نهاية عام 2022، أبلغ عدد أقل من الأمريكيين بالفعل عن قدرتهم على تغطية نفقات غير متوقعة بـ 400 دولار باستخدام النقد أو المدخرات أو بطاقة الائتمان التي يمكن سدادها على الفور، ما يعني ازدياد المخاوف بشأن الركود.
مشكلات مصرفية
يجادل المسؤولون في الاحتياطي الفيدرالي منذ فترة طويلة، بأن هناك مسارًا ضيقًا لخفض التضخم، من دون التسبب في انكماش اقتصادي مؤلم.
لكن بالنسبة للموظفين في الاحتياطي الفيدرالي، فقد تغيرت هذه الفكرة بعد انهيار بنك وادي السيليكون.
وحسب "فايننشال تايمز" نشأت المخاوف من التراجع الفوري المتوقع من البنوك الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي تمثل 40 في المئة من القروض المستحقة و عقود الإيجار، حيث واجهوا تدفقات الودائع السريعة إلى الخارج، وهبوط أسعار الأسهم وشبح الرقابة التنظيمية الأكثر قسوة، مع فشل مزيد من البنوك.
لكن، منذ ذلك الحين، جرى تشديد معايير الإقراض، ما يوسع الاتجاه الذي كان قيد التنفيذ، حيث رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض.
ونتيجة لذلك، حذر جيروم باول من أن تشديد شروط الائتمان يمكن أن يُضعف النشاط الاقتصادي والتوظيف والتضخم.
في ظل هذه الخلفية، ترى الصحيفة البريطانية أن القرارات السياسية التي يواجهها البنك المركزي أصبحت أكثر خطورة.
وأشارت إلى أنه بالنسبة للجزء الأكبر من حملة التشديد النقدي، لم يتردد المسؤولون كثيرًا بشأن المسار المناسب للمضي قدمًا في السياسة.
ولفتت إلى أنه بعد أن تأخر في الاستجابة للتضخم، تحرك بنك الاحتياطي الفيدرالي بالإجماع في جميع اجتماعاته تقريبًا منذ العام الماضي، معتمدًا -مرارًا وتكرارًا- على زيادات ضخمة بمقدار نصف نقطة وثلاثة أرباع نقطة للحاق بالركب.
ولكن، هذا التماسك يتعرض لخطر التآكل، حيث يتوصل صانعو السياسة المختلفون إلى استنتاجات مختلفة بمتى تظهر تأثيرات إجراءات بنك الاحتياطي الفيدرالي ومدى الضغط على الاقتصاد، ما يزيد الضغوط على باول.
وبالنسبة للاجتماع المقبل، يبدو أن القيادة العليا في الاحتياطي الفيدرالي قد توصلت إلى حل وسط، هو (وقف زيادة الفائدة مع فتح الباب لأي تحرك لاحق).
ومع ذلك -حسب الصحيفة- قد تكون المشكلة الأكثر ضررًا سيناريو التضخم المصحوب بالركود، حيث يتعثر الاقتصاد بسبب فترة ممتدة من النمو البطيء، ما يحد بشدة من حرية بنك الاحتياطي الفيدرالي، خلال اتخاذ قراره هذا الأسبوع، بشأن الفائدة.