من الترحيب الحار إلى تبادل الشكاوى في مجلس الأمن... ماذا حدث بين فرنسا ومالي؟
فرنسا نفت الاتهامات الأخيرة من مالي، بانتهاك مجالها الجوي وتقديم أسلحة للجماعات الإرهابية

السياق
مستوى متدنٍ جديد وصلت إليه العلاقات بين فرنسا ومالي، وسط حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل عملية حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة، في البلد الإفريقي.
ذلك المستوى جاء بعد أن اتهمت مالي فرنسا بتسليح مقاتلين وتنفيذ أعمال تجسس ضدها، بينما دعا وزير الخارجية المالي عبدالله ديوب، في رسالة إلى مجلس الأمن، إلى اجتماع طارئ ردًا على ما وصفها بـ«أعمال العدوان» الفرنسية.
رسالة مالي إلى مجلس الأمن، في 15 أغسطس الجاري، اليوم الذي غادرت فيه آخر وحدة عسكرية فرنسية مالي، بعد انسحاب عسكري دام ستة أشهر، زعمت أن فرنسا انتهكت المجال الجوي المالي أكثر من 50 مرة هذا العام لـ«جمع معلومات لصالح الجماعات الإرهابية في جمهورية مالي، والساحل وإنزال أسلحة وذخائر لهم من الجو».
وقال وزير الخارجية عبدالله ديوب إن المجال الجوي لبلاده تم اختراقه أكثر من 50 مرة هذا العام، مشيرًا إلى أن القوات الفرنسية تستخدم طائرات من دون طيار ومروحيات عسكرية وطائرات مقاتلة.
إلا أن فرنسا نفت الاتهامات الأخيرة من مالي، بانتهاك مجالها الجوي وتقديم أسلحة للجماعات الإرهابية، لزعزعة استقرار الدولة الواقعة غربي إفريقيا.
وقالت السفارة الفرنسية في مالي عبر «تويتر»: «من الواضح أن فرنسا لم تدعم -بشكل مباشر أو غير مباشر- هذه الجماعات الإرهابية، التي لا تزال أعداء لها في كل مكان على وجه الأرض».
وأضافت: «قُتل 53 جنديًا فرنسيًا في مالي خلال السنوات التسع الماضية، كانت مهمتهم -قبل كل شيء- محاربة الجماعات الإرهابية وتحسين سلامة الماليين».
تدهور العلاقات
بدأ الأمر بفرحة عارمة وصداقة، فعند وصولها إلى مالي عام 2013، تم الترحيب بالجنود الفرنسيين، كأبطال يحررون الماليين من التهديد الإرهابي الوجودي.
لكنها انتهت بهدوء -الاثنين الماضي- بعد أن اندفعت الوحدات الفرنسية القليلة الأخيرة عبر الحدود إلى النيجر المجاورة، في غياب وداع ودي من شركائها الماليين، الذين كانت فرنسا على خلاف كبير معهم، وكانت مهمتهم بعيدة عن الإنجاز.
وقال الجيش الفرنسي، في بيان، إن الوحدة الأخيرة من المهمة العسكرية الفرنسية، عملية برخان عبرت الحدود في الساعة الواحدة بعد ظهر الاثنين، مضيفًا أن المهمة تمر «بتحول عميق لكنها ستواصل محاربة الإرهاب في المنطقة».
كانت فرنسا أعلنت، في فبراير الماضي، انتهاء جهود مكافحة التمرد التي استمرت تسع سنوات في مالي، وسط توترات متزايدة مع المجلس العسكري، الذي أطاح الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا عام 2020، ثم تخلت عن التزاماتها بإجراء انتخابات واستعادة الحكم المدني.
وشكل قرار الانسحاب من مالي انتكاسة كبيرة لجهود باريس لمحاربة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، المستمرة منذ عام 2013، بينما علقت ألمانيا –الجمعة- مهمتها العسكرية في مالي حتى إشعار آخر.
وتقول صحيفة نيويورك تايمز: رغم إعلانات فرنسا المنتظمة عن قتل قادة «إرهابيين»، فإن المسلحين يواصلون جذب الشباب إلى صفوفهم، وغالبًا ما يجدون أرضًا خصبة للتجنيد بين المجتمعات المهمشة التي تعاني ظلم الدولة.
وقال ألفا الهادي كوينا، المحلل الجيوسياسي المقيم في باماكو بمعهد الأبحاث Think Peace Sahel، إن الوضع أسوأ مما كان عليه عام 2013، مشيرًا إلى أن سرطان الإرهاب انتشر عبر مالي.
وفي منطقة الساحل الأوسع، الشريط الشاسع جنوب الصحراء، نزح أكثر من 2.5 مليون شخص في العقد الماضي، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وفي الأشهر الستة الأولى فقط من هذا العام قُتل أكثر من ألفي مدني، وفقًا لمشروع بيانات الأحداث والموقع للنزاع المسلح، وهو منظمة غير ربحية.
تفاقم الغضب
عام 2020، تفاقم غضب الماليين من حكومتهم لفشلها في وقف العنف، وشهدت البلاد بعض أكبر مظاهراتها منذ سنوات.
وفي ذروة الاحتجاجات، اعتقل الجنود الماليون الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وأجبروه على الاستقالة.
ومنذ توليه السلطة، تمتع الجيش المالي بموجة من الشعبية، بينما أصبح الفرنسيون -الذين يُنظر إليهم على أنهم متواطئون مع إدارة الرئيس السابق كيتا- أكثر استياءً.
وقال الجنرال ديدييه كاستر، نائب رئيس الأركان السابق للعمليات في السنوات الأولى لعملية برخان وسابقتها، عملية سرفال، إن فرنسا ارتكبت بعض الأخطاء، بينها النهج المتعالي الذي أثار في النهاية غضب السلطات المالية والسكان.
وقال الجنرال المتقاعد كاستر: «لقد تصرفنا مثل الأخ الأكبر الذي كان يلجأ إلى أخيه الصغير ويخبره بما يجب أن يفعله وما لا يفعله. لقد كنا نحاول تطبيق النماذج التي لم تكن مناسبة لهم»، مشيرًا إلى أن خطأ آخر تمثل في محاولة حل أزمة متعددة الأوجه من خلال الوسائل العسكرية في المقام الأول.
لكن يبدو أن مالي لا تزال تتبع هذه الاستراتيجية، حيث وظفت "مرتزقة روسًا" وفقًا لمسؤولين ودبلوماسيين.
بينما قال كونيمبا سيديبي الوزير السابق في حكومة كيتا، إن الأزمة تزداد تعقيدًا في مالي مع خطوط غير واضحة بين من يُعد متمردًا أو «إرهابيًا» أو مجرد قروي عادي.
تعزيز القدرات العسكرية
في الأيام الأولى للتدخل الفرنسي كان يُنظر إليه على أنه نجاح كبير، بحسب الجنرال كاستر، الذي قال إن فرنسا والحلفاء الأوروبيين ساعدوا مالي أيضًا في تعزيز قدراتها العسكرية.
كانت لدى القوات الفرنسية معدات وتدريب أفضل بكثير من نظرائهم الماليين، ويمكنهم إجراء عمليات صعبة من الجو وكذلك على الأرض، حيث تمشط وحدات النخبة في المركبات المدرعة المكيفة السافانا بحثًا عن المتمردين وأسلحتهم.
لكن غالبًا ما كانت للجنود الفرنسيين خبرة قليلة أو معدومة في أي بلد إفريقي، وفهم محدود للديناميكيات المعقدة التي تلعبها، ولا توجد طريقة للتواصل مع الماليين الذين كانوا هناك لحمايتهم، بحسب «نيويورك تايمز»، التي قالت إن الفرنسيين أمضوا معظم وقتهم في قواعد محمية، وأصبح ينظر إليهم من قِبل الكثيرين على أنهم متعجرفون وغير فعالين.
تدير فرنسا جهودها لمكافحة الإرهاب في المنطقة من النيجر المجاورة، وكذلك من تشاد حيث تتمركز عملية برخان، بينما يضيف الانسحاب الفرنسي من مالي حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل عملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البلاد.
وقالت الرئاسة الفرنسية -في بيان هذا الأسبوع- إن «فرنسا لا تزال في منطقة الساحل (الأوسع) وخليج غينيا ومنطقة بحيرة تشاد مع جميع الشركاء الملتزمين بالاستقرار ومكافحة الإرهاب».
ومن المقرر أن يتمركز نحو ألف جندي في نيامي عاصمة النيجر إلى جانب طائرات مقاتلة وطائرات مسيرة وطائرات هليكوبتر، كما سيتم إرسال بين 300 و400 آخرين للقيام بعمليات خاصة، إلى جانب القوات النيجيرية في المناطق الحدودية مع مالي وبوركينا فاسو.
ويتمركز من 700 إلى 1000 جندي فرنسي في تشاد، مع عدد غير معلوم من القوات الخاصة العاملة في أماكن أخرى من المنطقة.