الفخ الأمريكي لليابان... لماذا عليك ألا تستخف بأعدائك؟
على مدى الاثنتي عشرة سنة بعد الحرب العالمية الأولى، كانت الديمقراطيات الثلاث القوية -الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا- تسيطر على الشؤون العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.

ترجمات - السياق
تشبيه مخيف أقدم عليه الكاتب روبرت كاغان -زميل في معهد بروكينغز ومحرر في صحيفة واشنطن بوست- بين فترتين تاريخيتين: منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 ودخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1941 ومنذ عام 2000 حتى اليوم، إذ يرى فيهما تطابقًا مثيرًا للخوف.
ويرى الكاتب في مقاله بـ "واشنطن بوست" الأمريكية أنه على مدى الاثنتي عشرة سنة بعد الحرب العالمية الأولى، كانت الديمقراطيات الثلاث القوية -الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا- تسيطر على الشؤون العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، إذ وضعوا شروط التسوية السلمية، وأعادوا رسم حدود أوروبا، واستدعوا دولًا جديدة إلى "الوجود"، وأقاموا ترتيبات أمنية، وحددوًا لمن يدين لمن، وكيف ومتى يجب سداد تلك الديون، ودعوا إلى عقد المؤتمرات التي حددت مستويات التسلح للدول الكبرى.
وأثار الكاتب سؤالًا: لماذا استطاعوا ذلك؟ ليجيب: بفضل انتصارهم في الحرب، أي تحديدًا فرنسا وبريطانيا، لأن واشنطن ولندن سيطرتا على البنوك والبحار، وباريس كانت تمارس قوة عسكرية مهيمنة في القارة الأوروبية، وانطلاقًا من هذه القوة، سعت "الديمقراطيات الغربية" الثلاث إلى إنشاء وتعزيز نظام عالمي ملائم لمصالحها وتفضيلاتها.
ويرى الكاتب أن "الدول الثلاث" أرادت بقاء أوروبا مستقرة ومزدهرة وسلمية، كما سعت إلى الحفاظ على امبراطورياتها العالمية، ويبين أنه في حالة الولايات المتحدة، أرادت هيمنتها على نِصف الكرة الغربي، واتفقوا على الدفاع عن النظام الاقتصادي الليبرالي الرأسمالي، الذي أغناهم وحماهم، والذي آمنوا به.
وأشار الكاتب إلى أنه بفعل سياساتهم تحققت نجاحات كبيرة، خلال النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، إذ أصبح العالم أقل عنفًا وأقل بؤسًا بشكل هامشي، وفي أوروبا تحديدًا، تعافت الاقتصادات، ومستويات المعيشة أخذت في الارتفاع، بينما انخفض العنف عن سنوات ما بعد الحرب مباشرة، وبدت مخاطر الحرب والعدوان تتلاشى.
وعلى الصعيد الدولي، ذكر كاغان أن التجارة ارتفعت بأكثر من 20 في المئة، مدفوعة -إلى حد كبير- بالازدهار الاقتصادي الأمريكي، بينما أصبحت الدول تناقش تدابير السلام أكثر من الاستعداد للحرب، كما نشأت عصبة الأمم، وبدت ألمانيا كأنها تسير على مسار ديمقراطي، وإجمالًا يلخص الكاتب بأن التهديد بالعودة إلى الاستبداد والعسكرة كان منخفضًا، وكأن الديمقراطية في صعود.
التحدي الفاشي
وانتقل الكاتب في مقاله إلى القوى المضادة للهيمنة الرأسمالية الغربية، التي كانت في بدايتها تخشى الولايات المتحدة وتحاول إرضاءها، فرأى أن السوفييت روجوا لثورتهم في الخارج، ولكن ليس بقوة لتحدي القوى المهيمنة، وانتهى بهم الأمر بـ "الاشتراكية في بلد واحد"، وموسوليني، صاحب الفاشية الذي كان يحكم إيطاليا المحاطة في البحر المتوسط بالقوة البحرية البريطانية والفرنسية، اعتمد على أمريكا للحصول على الدعم المالي، حتى أدولف هتلر نفسه، هو الآخر توخى الحذر عندما صعد إلى السلطة، أوائل الثلاثينيات وأعجب بالولايات المتحدة كـ"دولة عملاقة ذات قدرات إنتاجية لا يمكن تصورها" وكذلك بهيمنة الأنجلو أمريكان على الاقتصاد العالمي.
وأكد الكاتب أن هتلر أدرك جيدًا الدور الذي لعبته واشنطن في اختيار الحكومات الألمانية، إذ عمل -في البداية- على تخفيف معارضة أمريكا لصعوده، وأقدم على التواصل مع السفير الأمريكي، وأجرى مقابلات مع شخصيات إعلامية أمريكية بارزة، آملا أن يجعل "شخصية أدولف هتلر في متناول الشعب الأمريكي". كما وعد بدفع "ديون ألمانيا الخاصة" للمصرفيين الأمريكيين، وبذل قصارى جهده ليؤكد للعالم الناطق باللغة الإنجليزية، أن حركته الاشتراكية الوطنية لن تكتسب السلطة إلا "بطريقة قانونية بحتة".
ويذكر كاغان أنه سرعان ما تغيرت تلك الهيمنة الرأسمالية الغربية وكان أحد مؤشرات الاتجاهات المتغيرة، تراجع ثروات الديمقراطية في أوروبا، كما كان من المحتم أن بعض "الديمقراطيات الجديدة"، المزروعة في أراضٍ لم تعرف هذا الشكل من الأفكار، أن تموت، فصعدت الدكتاتوريات بأشكال مختلفة في المجر (1920) وإيطاليا (1925) وليتوانيا وبولندا والبرتغال (1926) ويوغوسلافيا (1929) ورومانيا (1930) وألمانيا والنمسا (1933) وبلغاريا ولاتفيا (1934)، واليونان (1935).
وأرجع الكاتب هذا المد الديكتاتوري لأسباب عدة، منها الكساد العالمي الذي بدأ عام 1930.
وأشار الكاتب إلى أن الديمقراطية الليبرالية لم تكن تتراجع فحسب، بل واجهت تحديًا قويًا من عقيدة حيوية وثورية مناهضة لليبرالية اجتذبت أتباعًا ومقلدين في أوروبا وخارجها، وهي البلشفية إذ افترض الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون، خلال الحرب العالمية الأولى ولعقود بعد ذلك، أن البلشفية تشكل أكبر تهديد للديمقراطية الليبرالية، لكن ثبت أن تصدير البلشفية كان أقل سهولة مما اعتقده مؤيدوها ومعارضوها.
وبعد أن نبذته بقية أوروبا، اتجه الاتحاد السوفييتي إلى الداخل، ليصارع التحول في مجتمعه.
لماذا الفاشية
يوضح الكاتب أن فاشية موسوليني مثلت رفضًا لليبرالية والنظام السياسي والاقتصادي الأنجلو أمريكي، بعد الحرب التي فُرضت على شعوب الدول "التي لا تملك حق الرفض "، كما وعدت باستعادة الهوية والثقافة القومية والعرقية، ومجدت الناس ليس كأفراد بل كجماعة، حيث كانت الأمة أداة لمصيرهم المشترك، وكان لابد من إخضاع الحقوق الفردية والعمليات القانونية للإرادة الشعبية، وهي إرادة لا يمكن فهمها وتوضيحها وتنفيذها، إلا من قِبل زعيم وطني يتمتع بشخصية كاريزمية، هو الدوتشي، الذي يمكن للناس أن يضعوا ثقتهم به، ليأتي عام 1925، ويقدم موسوليني فكرة المجتمع "الشمولي"، حيث تشرف الدولة على كل جوانب الحياة.
واعترف موسوليني بأن الفاشية أيديولوجية حرب وليست للسلام، ويدلل الكاتب بما قاله الزعيم الفاشي: "الكلمات أشياء جميلة، لكن البنادق والمدافع الرشاشة والسفن والطائرات والمدافع لا تزال أجمل".
لذا من وجهة نظر موسيليني كان لا بد من تطهير المجتمع من الليبرالية المترهلة والأحزاب السياسية المتناحرة والعناصر الغريبة، وتشكيله في جماعة موحدة صالحة للحرب، فسعى لتوحيد الناس للحرب، من خلال السيطرة الصارمة على السياسة والاقتصاد والمجتمع، والقضاء على المؤسسات التي يمكن أن تقف في طريق سلطة الزعيم، من الكنيسة إلى الأرستقراطية إلى بقايا الملكية.
وكذلك كان هتلر الذي سعى لإنشاء ألمانيا جديدة لن تفشل كما فعلت الإمبراطورية الألمانية عام 1918 وأول كلمة قالها لجنرالاته عشية تولية السلطة: "الديمقراطية أكثر الأشياء كارثية"، مشددًا على أنه "شخص واحد فقط يمكنه وينبغي أن يعطي الأوامر وأن على السكان الألمان أن يتعلموا التفكير بشكل قومي، هذا لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة".
ويسلط الكاتب الضوء على هذه الأيدولوجيات ومدى قدرتها على الانتشار واختراق الحدود، ويستشهد بما قاله موسوليني: "من يقول إن الفاشية ليست سلعة قابلة للتصدير مخطئ"، حتى أنه حاول الترويج للفاشية في الولايات المتحدة، كما رأى نفسه أنه "بابا مناهضة الديمقراطية" يقود "حملة صليبية مناهضة للديمقراطية في العالم".
لتظهر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حركات فاشية مختلفة الأشكال والأحجام في كل الدول تقريبًا.
ويقول الكاتب إن الفاشية أحرزت تقدمًا قليلًا جدًا في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث كانت الديمقراطية أكثر عمقًا، لكنها ازدهرت في البلدان التي كانت فيها المؤسسات الديمقراطية الليبرالية جديدة وهشة، بما في ذلك في فرنسا، حتى في الصين، ذُهل شيانغ كاي شيك ومستشاروه كيف أصبح موسوليني "أعظم رجل دولة في أوروبا وأكثرها جمالًا" واعتقدوا أن إيطاليا الفاشية قدمت نموذجًا لكيفية استعادة الصين قوتها الوطنية "من خلال إحياء الحضارة العظيمة".
ويشير الكاتب إلى أن طموحات موسوليني الدولية مرت عبر برلين، لكن شجعه على ذلك العدوان الياباني في منشوريا، ورد الفعل الضعيف والمتردد لعصبة الأمم والولايات المتحدة، عندما أعلنت اليابان انسحابها من عصبة الأمم عام 1933، وهو ما عُد علامة على أن الدول الأخرى قد تكون مستعدة وقادرة على شن تمرد ضد النظام الأنجلو أمريكي، لكن في النهاية -حسب الكاتب- بحث موسوليني عن الخلاص عبر ألمانيا، إذ كان يعتقد أن "محور التاريخ الأوروبي يمر عبر برلين" بينما رأى في صعود هتلر إلى السلطة الفرصة التاريخية التي كان ينتظرها.
وهو ما توافق مع رؤية هتلر في استيلاء الفاشيين على السلطة بإيطاليا، إذ عده "نذير نجاحه الخاص" وكان معجبًا جدًا بموسوليني، لدرجة أنه عندما التقيا للمرة الأولى في صيف 1934، كانت الدموع في عينيه.
ويعود الكاتب إلى اليابان، التي انضمت منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى النادي المناهض لليبرالية.
كما جادل يوسوكي ماتسوكا، الفاشي الياباني البارز في الثلاثينيات من القرن الماضي.
كان دخول اليابان إلى ما أطلق عليه هتلر "مثلث" المنافسين للنظام الأنجلو أمريكي، الخطوة الأخيرة في الثورة الجيوسياسية، ويستشهد الكاتب بما قاله أحد المؤلفين اليابانيين عام 1934، بأن العالم الآن احتوى على "صندوقي بارود"، أحدهما غربي المحيط الهادئ والآخر في أوروبا ، وكان الاثنان "متشابكين"... الأزمة في أحدهما "يمكن أن تمتد بسهولة إلى الآخر وتتخذ طابعًا عالميًا".
الإسراع نحو الحرب
من الفاشية والنازية إلى واشنطن، تحديدا مكتب الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي أمضى ولايته الأولى في محاربة الكساد الكبير، وولايته الثانية في محاولة لإقناع الأمريكيين بالخروج من مناهضتهم الصارمة للتدخل في شؤون الدول، تحديدًا بعد سقوط فرنسا عام 1940، حيث بات الوضع أكثر إثارة للقلق، بعدما أعطى غزو فرنسا من الألمان قواعد جديدة على ساحل المحيط الأطلسي، للعمل من خلالها ضد السفن البريطانية وقوافلهم البحرية، ما أدى إلى توسيع نطاق وصول أسطول الغواصات الألماني، الذي أصبح أكثر تعقيدًا في تكتيكاته، وأوائل عام 1941، كان الألمان يغرقون السفن التجارية البريطانية، بمعدل يزيد على خمسة أضعاف قدرة بريطانيا على استبدالها، وحينها كان روزفلت يخشى الأمريكيين، إذ اعتقد أنهم لم يكونوا جاهزين لدخول أمريكا الحرب، وكان مترددًا في اتخاذ هذه "الخطوة الكبيرة إلى الأمام"، التي رد عليها وزير الخارجية هنري ل. ستيمسون: "أتمنى أن تستمر في السير، سيدي الرئيس، استمر في التقدم".
ويشير روبرت كاغان إلى أن روزفلت، بدأ يدخل الحرب بشكل تدريجي، عندما بدأ السماح بإصلاح السفن البريطانية في الموانئ الأمريكية، كما حصل على إذن الحكومة الدنماركية لوضع جرينلاند تحت السيطرة الأمريكية، وأذن بإنشاء قواعد هناك للمساعدة في الدفاع عن النقل البحري عبر المحيط الأطلسي، وأذن للبحرية الأمريكية بالعمل مع البريطانيين على خطط لمرافقة القوافل، ورغم أنه استمر في الابتعاد عن إعلان هذه السياسة، فقد أظهر استطلاع للرأي وقتها أن الجمهور لا يزال يعارض، مساعدة الدوريات البحرية الأمريكية للبريطانيين، في اكتشاف الغواصات الألمانية.
وفي خضم ذلك، كان الوضع خارج أمريكا يزداد خطورة فحققت ألمانيا النازية سلسلة من الانتصارات في ربيع 1941 بغزوها اليونان واحتلالها، ثم إسقاط يوغوسلافيا في 11 يومًا فقط، وطلب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل من روزفلت زيادة المساعدة الأمريكية، وحتى الدخول في الحرب رسميًا، وحينها حذر تشرشل من أنه ما لم تتخذ الولايات المتحدة "مواقف أكثر تقدمًا الآن، أو قريبًا جدًا"، فإنها ستتعرض للتهديد هي الأخرى، وكان روزفلت يواق تشرشل بأن الوضع خطير، ومضى قدمًا بقدر ما كان يعتقد أن الجمهور الأمريكي سيسمح بذلك. وحذر في خطاب ألقاه للجمهور: "ما لم يكبح تقدم النازيى بالقوة الآن، سيكون نصف الكرة الغربي في مرمى أسلحة الدمار النازية".
وأصدر إعلانًا بوجود "حالة طوارئ وطنية غير محدودة" ودعا إلى "تعزيز الدفاعات إلى أقصى حدود قوة أمريكا"، ليأمر بعد ذلك 4000 من مشاة البحرية الأمريكية بتولي مواقع في آيسلندا، ما يسمح للقوات البريطانية هناك بالعمل في أماكن أخرى.
ويذكر الكاتب رؤية اللورد هاليفاكس، سفير بريطانيا في واشنطن، بأن مشكلة روزفلت الدائمة كانت توفيق المسار في رغبة الأمريكيين المنقسمة بين الابتعاد عن الحرب وكسر هتلر، تدمير النازية.
ويقف الكاتب روبرت كاغان عند 4 سبتمبر 1941، حينما أطلقت غواصة ألمانية طوربيدات على مدمرة أمريكية "يو إس إس جرير"، حتى المسؤولون الأمريكيون اعتقدوا أن قائد غواصة يو لم يعلم أنه كان يطلق النار على سفينة حربية أمريكية، لكن روزفلت استفاد من الحادث إلى أقصى حد.
ليقول روزفلت وقتها:"الوقت حان لجميع الأمريكيين... للتوقف عن خداع الفكرة الرومانسية القائلة بأن الأمريكتين يمكن أن تستمر في العيش بسعادة وسلام في عالم يهيمن عليه النازيون".
ويتذكر الكاتب كلمات روزفلت الشهيرة: "لم نسع لإطلاق النار على هتلر ولا نسعى إلى ذلك الآن، لكن عندما ترى أفعى على وشك الضرب، لا تنتظر حتى تضربك قبل أن تسحقها".
واعتبر هتلر أن أمريكا بقيادة روزفلت عقبة خطيرة، وأواخر عام 1940، دارت خططه الاستراتيجية حول إبقاء الولايات المتحدة خارج الحرب حتى يكون مستعدًا لخوضها، لكن كان إعادة انتخاب روزفلت لولاية ثالثة في نوفمبر 1940 جعل التدخل النهائي للولايات المتحدة شبه مؤكد.
وفي ديسمبر، أشارت المخابرات الألمانية إلى أن المشاعر التدخلية في تزايد، ويرجع الفضل في ذلك إلى روزفلت.
حينها عرف هتلر ومستشاروه أنه عام 1941، سيتجاوز إنتاج الطائرات الأمريكية إنتاج الرايخ وأنه نهاية عام 1941، ستمتلك الولايات المتحدة جيشًا حديثًا مجهزًا جيدًا قوامه 1500000 جندي.
أخبر هتلر الجنرال ألفريد جودل في ديسمبر 1940 بأن ألمانيا بحاجة إلى حل المشكلات القارية عام 1941 "لأن الولايات المتحدة ستكون مستعدة للتدخل عام 1942".
طالما عد المسؤولون الألمان اليابان أحد الأسلحة المهمة عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، كما افترض هتلر أن الولايات المتحدة ستفعل أي شيء لتجنب حرب على جبهتين، وأن الخوف من اليابان سيجبر روزفلت على إبقاء الجزء الأكبر من الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ بدلاً من المحيط الأطلسي.
وفي سبتمبر 1940، أخبر هتلر موسوليني بأن "التعاون الوثيق مع اليابان" كان "أفضل طريقة لإبعاد أمريكا عن الصورة أو لجعل دخولها في الحرب غير فعال".
وكانت اليابان ماضية في طريقها نحو الغزو الشامل للصين، وهو ما عمق الصدام الأساسي بينها وبين القوى الغربية، وبعد أن استولت القوات اليابانية على شنغهاي ونانجينغ وهانغتشو وقوانغدونغ وهانكو، أعلن كونوي "النظام الجديد" في 3 نوفمبر 1938، بعد شهر واحد فقط من استسلام البريطانيين والفرنسيين في ميونيخ.
ويرى روبرت كاغان أن حرب اليابان في الصين تحدت الغرب بجرأة وسرعت تطور السياسة اليابانية نحو الاستبداد والعسكرة، كما منح قانون التعبئة الوطنية الحكومة سلطات واسعة، حيث أرسلت اليابان أكثر من مليون جندي إلى الصين خلال العام الأول من الحرب.
عندما استقالت حكومة كونوي عام 1939، وسط إحباط شعبي من التكلفة الباهظة والنتائج غير المحددة للحرب، أدت حكومة جديدة بقيادة سياسي يميني بارز ومؤسس أحد المجتمعات القومية المعادية للديمقراطية، إلى تعميق دور الدولة وتنظيم المجتمع حول المجهود الحربي.
ومن الناحية الأخرى كانت رغبة هتلر تتحقق بتوريط الولايات المتحدة في صراع مع اليابان، من أجل تشتيت انتباهها عن أوروبا.
لكن أمريكا من ناحيتها لم تتورط في الحرب مباشرة مع اليابان، بل ظلت وزارة الخارجية الأمريكية تدرس طوال عام 1938، خيارات العقوبات الاقتصادية، التي تتطلب إلغاء معاهدة 1911 للتجارة والملاحة مع اليابان، لكن روزفلت لم يكن مستعدًا لاتخاذ هذه الخطوة.
عام 1939، مع تزايد الضغوط العامة والكونغرس، فرض روزفلت ما سماه "الحظر الأخلاقي" على الطائرات والذخائر الجوية، لثني الشركات الأمريكية عن بيع هذه المواد لليابان، لكن ثبت أن هذا التقييد محدود، ولا يزال يُسمح للشركات الأمريكية بتصدير الصلب والألمنيوم والتكنولوجيا ووقود الطائرات.
كانت النتيجة سياسة أمريكية لم تستوعب ولم تردع اليابانيين، وكما قال وزير الداخلية هارولد إيكيس، فإن الاعتماد على الموارد الأمريكية كان "حبل المشنقة" حول رقبة اليابانيين، وكان روزفلت "غير راغب في ربط الخناق بإحكام"، لكنه كان على استعداد "لإعطاء لمحة عن ذلك بين الحين والآخر" لتذكير اليابانيين بإمكانية الاختناق.
الفخ الأمريكي
وقع ما خشاه الجميع وبعد عشر ساعات من الهجوم على بيرل هاربور، هاجمت القوات اليابانية القواعد الأمريكية في الفلبين، ودمرت نِصف القوات الجوية الأمريكية في الشرق الأقصى على الأرض جنبًا إلى جنب مع منشآتها، ثم أعيدت قوات الجيش الأمريكي والفلبيني إلى باتان، حيث قاتل الجنود بعناد قبل أن يستسلموا للجوع والمرض، واستسلم المقاتلون الأمريكيون والفلبينيون المتبقون، وأسِر عشرات الآلاف، وتكبد الأمريكيون خسائر في الأرواح في فترة زمنية أقصر من أي صراع في تاريخهم بخلاف الحرب الأهلية.
ويروي الكاتب أنه في هذه الأثناء كان البريطانيون يعانون "أكبر كارثة" في تاريخهم، حيث استسلموا في هونغ كونغ في غضون أسابيع، ثم سقطت مالايا في شهرين، حيث سُحقت القوات البريطانية والهندية، وغرقت سفنهم الحربية، وأسِر عشرات الآلاف، ونهاية فبراير، اجتمعت البحرية الامبراطورية اليابانية ودمرت القوات البحرية المشتركة للولايات المتحدة والهولنديين والبريطانيين.
واستطاعت اليابام إسقاط بورما، واحتلت مزيدًا من الأراضي في فترة زمنية أقصر من أي دولة في التاريخ، وهنا يتطلب الفوز في الحرب من الولايات المتحدة، بمفردها عمليًا، أن تشق طريقها مرة أخرى عبر المحيط الهادئ، وتدحر هذه المكاسب الاستراتيجية الهائلة جزيرة تلو الأخرى.
في الوقت نفسه، بدأت الولايات المتحدة عملياتها ضد القوات الألمانية على الجانب الآخر من العالم، وبأخذ زمام المبادرة من البريطانيين، طردت القوات الأمريكية الألمان من شمال إفريقيا ثم بدأت الهجوم عبر إيطاليا، قبل أن تقود الولايات المتحدة غزو الحلفاء لألمانيا، الذي أنهى الحرب في أوروبا.
يعود الكاتب للهيمنة الأمريكية التي بدأت بتحويل اقتصاداها للإنتاج للحرب، وتضخم الجيش الأمريكي الذي كان 188 ألفًا عام 1939، إلى 5.4 مليون نهاية عام 1942.
نهاية الحرب، كان 12 مليون أمريكي بأيديهم السلاح، وهو الثاني من حيث العدد بعد الاتحاد السوفييتي.
وأنتجت أحواض بناء السفن ما يقرب من 9000 "سفينة بحرية رئيسة" بين عامي 1941 و1945، أي ما يقرب من 10 أضعاف العدد الذي أنتجته بريطانيا في الفترة نفسها، و16 ضعف العدد الذي أنتجته اليابان.
عام 1943 وحده، بنت الولايات المتحدة 16 حاملة طائرات، ما عوض أكثر من خسائرها المبكرة، وأنتجت الصناعة الأمريكية أكثر من 300000 طائرة عسكرية خلال الحرب، أكثر من بريطانيا وألمانيا واليابان مجتمعة، وكذلك 90 في المئة من وقود طائرات الحلفاء، و زودت ربع جميع الذخائر البريطانية وأكثر من نصف جميع المركبات العسكرية التي يستخدمها السوفييت.
وهو ما اعترف به الروس لاحقًا، بأنه لم يكن بإمكانهم الصمود في وجه الهجوم الألماني، من دون المساعدة المالية والمادية الأمريكية، وقال ستالين عام 1943: "أنا أشرب نخب صناعة السيارات الأمريكية وصناعة النفط الأمريكية".
ويقف الكاتب عند هذه المرحلة المفصلية في تاريخ أمريكا ومن ورائها العالم، إذ ارتفع الاقتصاد الأمريكي، بينما انهار اقتصاد كل قوة عظمى أخرى تحت وطأة الحرب الشاملة، تضاعف الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة، وانضم 11 مليون أمريكي إلى القوات المسلحة، لكن انضم 6 ملايين إلى صفوف القوى العاملة المدنية، وسمح هذا التوسع للاقتصاد الأمريكي بزيادة الإنتاج العسكري بشكل كبير من إنتاج العديد من السلع غير المرتبطة بالحرب.
ويذكرنا الكاتب في مقاله بما قاله دبلوماسي ياباني رفيع المستوى، فور إعلان الحرب: "لا يعرف كيف يهزم المرء الولايات المتحدة" وسرعان ما عُدت الحرب مع أمريكا مأساة.
ويختم الكاتب رانغون مقاله في "واشنطن بوست" بالقول: الولايات المتحدة والديمقراطيات لم تنجح في احتواء ألمانيا أو اليابان أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، مضيفًا أنه كان من الصعب إدارة الصعود المتزامن لقوتين رئيستين عدوانيتين في منطقتين أساسيتين من العالم، أكثر مما كان يمكن أن يكون لقوة واحدة، مشيرًا إلى أنه رغم أن القوتين لم تكنا متحالفتين، ولم تكن هناك ثقة ببعضهما باستمرار، فإن كل نجاح ألماني بأوروبا حفز المزيد من العدوان الياباني في آسيا، وعزز كل انتصار ياباني في آسيا عزم هتلر على المضي قدمًا في أوروبا، بينما افترض كلاهما أن قوى الحلفاء، خاصة الولايات المتحدة، ستشتت انتباهها بسبب التحركات العدوانية للطرف الآخر وتخشى اندلاع حرب على جبهتين.
ويرى الكاتب أن تعزيز هذا الافتراض كان اعتقادهم المشترك بأن الأمريكيين لن يقاتلوا من أجل أي شيء خارج نِصف الكرة الغربي، ليثير تساؤلات مهمة: "هل عرف قادة اليابان وألمانيا أنه ستأتي نقطة يغير فيها الأمريكيون رأيهم، ويقررون أن المخاطر تستحق المجازفة بالحرب"؟، ليقول: هنا اندلع فخ أمريكا، وبحلول الوقت الذي قررت فيه الولايات المتحدة استخدام سلطتها، بعد ما يقرب من عقدين من التراخي المتعمد، كان الأوان قد فات على اليابانيين، للعودة من دون إذلال كارثي.