لبنان يطرق أبواب مكافحة الفساد... فهل تنجح المهمة الأوروبية؟
خمس دول أوروبية تحقق مع حاكم مصرف لبنان المحاصر رياض سلامة في مزاعم غسل أموال عامة بأوروبا.

ترجمات -السياق
على وقع الأزمة السياسية التي «تحاصر» لبنان، كان البلد المأزوم اقتصاديًا، على موعد مع محطة مهمة في ملف مكافحة الفساد، الذي يعوقه عن المضي قدمًا في طريقه نحو التعافي.
تلك المحطة تتمثل في أولى جلسات الاستجواب القضائية، التي سيجريها وفد قضائي أوروبي من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ، الاثنين، ضمن سياق تحقيقات مالية أوروبية بقضايا اختلاس وتبييض وتهريب أموال وإثراء غير مشروع وتهرب ضريبي، ترتبط أغلبيتها بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأقارب ومعاونين له.
وبدأ وفد أوروبي، يضم مدعين عامين وقضاة تحقيق ومدعين عامين ماليين، الوصول من الدول الأوروبية الثلاث، منذ التاسع من يناير الجاري، في مهمة قضائية تستمر حتى 20 من الشهر نفسه، بينما من المرتقب أن يستمعوا -خلال الجلسات التي سيعقدونها- إلى مجموعة من المسؤولين المصرفيين وموظفين في مصرف لبنان ونواب حاليين وسابقين لحاكم مصرف لبنان، كلهم بصفة شهود، إضافة إلى رجل أعمال لبناني بصفة مشتبه به في قضية منفصلة.
مهمة أوروبية
قالت وكالة أسوشيتد برس، إن خمس دول أوروبية تحقق مع حاكم مصرف لبنان المحاصر رياض سلامة في مزاعم غسل أموال عامة بأوروبا، مشيرة إلى أن سويسرا فتحت التحقيق لأول مرة منذ عامين، تلتها فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ.
ومنذ عام 2019، يمر لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخه الحديث، تجذرت بسبب عقود من الفساد وسوء الإدارة، ما جعل ثلاثة أرباع سكان البلاد يعانون الفقر.
ويحمِّل كثيرون في البلد الذي يعاني ضائقة مالية سلامة البالغ من العمر 72 عامًا مسؤولية الأزمة، مستشهدين بالسياسات التي أدت إلى زيادة الدين الوطني، وتسببت في خسارة الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار، إلا أن الحاكم الذي يتولى المنصب منذ أبريل 1993، ما زال يتمتع بدعم كبار السياسيين.
وشكك النشطاء والمحامون في الثروة التي جمعها سلامة على مر السنين، رغم إصراره -مرارًا وتكرارًا- على أنه حصل عليها قبل تعيينه محافظًا أثناء عمله مصرفيًا استثماريًا في ميريل لينش، ما يقرب من عقدين، مشيرًا إلى أن راتبه الأخير كان مليوني دولار في السنة، وكان لديه 23 مليون دولار، إضافة إلى الممتلكات التي حصل عليها و«استثمرها بحكمة» لتنمية ثروته، قبل أن يصبح حاكمًا.
وعن الوفد الأوروبي، قال وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري، في مؤتمر صحفي: «لم يعد سرًا أن لبنان تلقى طلبات مساعدة قانونية من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وسويسرا»، مضيفًا أن لبنان أرسل لسويسرا وألمانيا وفرنسا عديد الأدلة التي طلبوها.
لوائح مسربة
وبينما لم تنشر أي لائحة رسمية للبنانيين الذين سيُستمع إلى شهاداتهم، تداول مغردون عبر مواقع التواصل الاجتماعي لوائح مسربة وأسماء وأرقام متضاربة.
وينظر القضاة الأوروبيون في استجواب أكثر من عشرة أشخاص، أبرزهم المحافظ وشقيقه رجاء سلامة ورؤساء البنوك التجارية الكبرى في لبنان ومراقبو حسابات البنك المركزي، بحسب «أسوشيتد برس».
إلا أن النائب العام التمييزي اللبناني غسان عويدات، قال إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ليس ضمن اللائحة في المرحلة الراهنة، وذلك لا يلغي إمكانية طلب الاستماع إليه في مراحل لاحقة.
وجمدت السلطات الفرنسية والألمانية ولوكسمبورغ في مارس أكثر من 130 مليون دولار من الأصول المملوكة لخمسة مشتبه بهم على صلة بتحقيق في غسل الأموال بـ 330 مليون دولار و5 ملايين يورو، بينما يعتقد -على نطاق واسع- أن سلامة وشقيقه بينهم.
وقال مكتب المدعي العام السويسري في يناير 2021 إنه طلب مساعدة قانونية من لبنان، بينما أظهرت وثيقة الطلب التي حصلت عليها «أسوشيتد برس»، أن المدعين الفيدراليين استفسروا عن علاقة المصرف المركزي اللبناني بـ Forry Associates Ltd، وهي شركة وساطة مملوكة لرجاء سلامة.
وذكرت تقارير أن رياض سلامة استأجر الشركة للتعامل مع مبيعات السندات الحكومية من البنك المركزي، التي تلقت فيها شركة شقيقه نحو 330 مليون دولار على شكل عمولات، بينما قال شقيقه محافظ مصرف لبنان في نوفمبر الماضي: «لم يستخدم فلس واحد من المال العام لدفع شركة Forry Associates Ltd».
سيطرة النخبة
من جانبها، قالت زينة واكيم، المحامية التي ترأس منظمة Accountability Now السويسرية التي رفعت شكاوى قانونية ضد سلامة والشركات التابعة له في سويسرا وفرنسا والمملكة المتحدة، إنها تتوقع «تعاونًا محدودًا من اللبنانيين لإظهار حُسن النية، بسبب روابط قوية بين السياسيين والبنوك والقضاء».
وأوضحت واكيم لوكالة أسوشيتد برس، أن الوفد سيدرك ما يعنيه أن تسيطر النخبة على أكبر 18 بنكًا في لبنان، مشيرة إلى أن أي تعاون حقيقي في لبنان -سواء كان مصرفًا أو موظفًا عامًا أو قاضيًا- سيكون ضربة للنظام نفسه، بسبب هذه الصلة بين الأوليغارشية المصرفية والنخبة السياسية.
وطاردت قاضية التحقيق اللبنانية غادة عون سلامة وشركاءه عام 2022، وجمدت بعض أصوله، وفرضت حظرًا على السفر، بينما اعتُقلت فترة وجيزة شقيقه رجاء.
وفي مارس 2022، اتهمت سلامة وشقيقه بالإثراء غير المشروع وغسل الأموال.
ورغم ذلك، فإن التحقيقات الأوروبية أثارت انقسامًا في الشارع السياسي اللبناني، فبينما رحب بها فريق، معتبرينها بابًا للمحاسبة وكشف الفساد المتجذر في بلادهم، أبدى آخرون تخوفاتهم من الدخول الدولي على الملفات القضائية اللبنانية، معتبرينها تعديًا على السيادة اللبنانية، الأمر الذي يثير مخاوف من عرقلة ممنهجة لمهمة الوفد الأوروبي.
ماذا سيحدث؟
استعدت السلطات اللبنانية لبدء التحقيقات الأوروبية، بتجهيز القاعة العامة لمحكمة التمييز في قصر عدل بيروت، الذي ستجرى في الاستجوابات، بالمعدات اللازمة، بينما كثفت الأجهزة الأمنية اللبنانية إجراءاتها لحماية الوفود الأوروبية ومقار إقامتها ومواكبة تحركاتها.
ومن المقرر أن يجتمع –الاثنين- النائب العام التمييزي اللبناني والوفود القضائية الأوروبية لمناقشة خطة العمل، قبل بدء التحقيقات التي سيشرف عليها القضاء اللبناني، لضمان تنفيذ الاستنابات القضائية الأوروبية، من دون تجاوز القوانين اللبنانية وصلاحيات القضاء اللبناني، بحسب وسائل إعلام محلية.
عراقيل عدة
ورغم تلك الاستعدادات فإن الأمر لم يخل من محاولات لعرقلة عمل الوفد الأوروبي، فالوفد الألماني انزعج من رفض النائب العام الاستئنافي اللبناني زياد أبو حيدر طلب مدعي عام التمييز تسهيل مهمة المحققين الأوروبيين، حيث غادر مكتبه وأقفل خطه، الأمر الذي دفع عويدات إلى التلويح بإحالته إلى التفتيش القضائي.
كما تعنت المسؤول اللبناني في منع الفريق الألماني من تصوير أو نسخ لملف التحقيقات، مانحًا القضاة الألمانيين حق الاطلاع على الملفات فقط، والتقدم للنيابة العامة التمييزية بطلب الحصول على الوثائق والنسخ المطلوبة من الملف، الأمر الذي رفضه الوفد الألماني مغادرًا مكتب القاضي حاموش من دون الاطلاع على ملف سلامة أو فض الشمع الأحمر عنه.
من جانبه، قال الدكتور جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأمريكي، إن لبنان يسير في مسار مأساوي لم يسبق له مثيل في تاريخه، مشيرًا إلى أن الإخفاقات المتعددة تعود إلى الفساد المستشري من الطبقة السياسية وإفلات حزب الله من العقاب.
وأكد أن على قادة لبنان تحمُّل المخاطر اللازمة لعكس اتجاه بلدهم من السقوط في هاوية الانهيار الاقتصادي والسياسي، والمضي قدمًا في إجراء إصلاحات محددة ومطلوبة للحكومة اللبنانية والبرلمان والوزارات والأحزاب السياسية لتنفيذها.
وأشار إلى أن ما يثير القلق، هو عدم جدوى دعوة القادة الطائفيين الفاسدين، الذين دفعوا البلاد إلى الخراب لإصلاح أنفسهم خارج نطاق الأعمال، حيث تقدم الولايات المتحدة والهيئات الدولية الأخرى حوافز أو عقوبات، لتحفيزهم على تبني هذه الإجراءات.