اليوم السادس من القتال في السودان.. جثث على الطريق وهدنة ولدت ميتة
من الصعوبة قراءة المشهد السياسي أو العسكري، فعلميات الكر والفر في الشوارع وحول المطارات والمقار الاستراتيجية مستمرة.

السياق
رغم هدنة أعلنتها الأطراف المتحاربة في السودان لمدة 24 ساعة، لكن القتال لم يتوقف وأصوات دوي النيران والانفجارات لم تنقطع، تحديدًا في محيط القيادة العامة والقصر الجمهوري بالخرطوم.
ووفقًا للمعلومات الواردة من الخرطوم، فإن أعداد الوفيات والمصابين في صفوف المدنيين والمتقاتلين تتزايد، بينما حذرت النقابة العامة للأطباء من مخاوف خروج المستشفيات عن نطاق الاستيعاب وتوقفها عن العمل.
وأعلن الهلال الأحمر، أن الخرطوم منطقة حرب، محذراً من قرب انهيار النظام الصحي، مشيرًا إلى أن الجثث على حواف الطريق، وهو ما نفته وزارة الصحة السودانية.
ويعاني السودان أزمة تضخم وغذاء، ولا يعرف مدى التأثير الذي قد يلحق بالبلد الإفريقي بتعداد 45 مليون نسمة، ويعاني أكثر من ثلثه الجوع.
دعم خارجي
لكن من الصعوبة قراءة المشهد السياسي أو العسكري، فعلميات الكر والفر في الشوارع وحول المطارات والمقار الاستراتيجية مستمرة.
والتقارير الصحفية المدعومة بمعلومات استخباراتية، تؤكد تلقى كل جنرال من المتحاربين "البرهان وحميدتي" دعمًا خارجيًا إقليميًا ودوليًا.
وكان آخرها ما نشرته "وول ستريت جورنال" الأربعاء، عن تلقى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" طائرة محملة بالإمدادات العسكرية من خليفة حفتر، وهو ما نفاه قائد الجيش الليبي.
وقال أحمد المسماري، المتحدث باسم "الجيش الوطني الليبي: "تنفي القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية نفيًا قاطعًا تقديم الدعم لطرف ضد الطرف الآخر في السودان".
وأضاف أن القوات المسلحة الليبية تجري الاتصالات العاجلة بالأطراف المعنية، ونحن مستعدون للقيام بدور الوساطة بين الأشقاء في السودان لوقف القتال.
بالمقابل، فإن المشهد في الشارع السوداني خطير للغاية، إذ يحاول آلاف الفرار من النيران والقصف الصاروخي والمدفعي، حيث أسفر القتال المستمرّ لليوم السادس، بين قوات الدعم السريع والجيش، عن قتل أكثر من 300 مدني.
الحياة المستحيلة
سيرًا أو في مركبات، وعلى طرق تغطّيها جثث وهياكل مدرّعات متفحّمة، عبَر كثيرون وسط أزيز الرصاص ودوّي القذائف خلال المعارك، بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، والجيش بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، حليفا الأمس عدوا اليوم.
وقال علويّة الطيب (33 عاماً) وهو في طريقه جنوباً: "الحياة مستحيلة في الخرطوم".
وأضاف: "فعلت كلّ شيء كي لا يرى أولادي الجثث، لأنّهم مصدومون بالفعل".
من جهته، قال محمد صالح (43 عاماً)، موظف حكومي: "نذهب إلى أقارب لنا في ود مدني"، عاصمة ولاية الجزيرة، على بعد 200 كيلومتر جنوب العاصمة، وأضاف: "نخشى مهاجمة منازلنا"، بينما يجوب الجيش وقوات الدعم السريع الشوارع.
الجنرالان اللذان يخوضان حرب "وجود" على ما يبدو وفق الخبراء، صمّا آذانهما -حتى الآن- عن الدعوات لوقف إطلاق النار أو على الأقل لإعلان هدنة مؤقتة لإجلاء المدنيين من أخطر الأحياء.
وكما حصل الثلاثاء، أعلنت قوات الدعم السريع "هدنة 24 ساعة" من الساعة الرابعة مساءً بتوقيت غرينتش، رغم أنّ هدنة الثلاثاء لم تدم دقيقة واحدة.
الصراع في السودان.. نهاية زواج المصلحة بين البرهان وحميدتي
الجنود المصريون
لم يعد البقاء ممكنًا في الخرطوم منذ السبت، مع انقطاع الكهرباء والمياه، ولا تعودان سوى بضع ساعات في بعض الأماكن، والرصاص الطائش الذي يخترق النوافذ وحتى الجدران، وتنهمر أحيانًا من السماء صواريخ، لتحوّل مبنى أو مستشفى إلى كومة من الأنقاض.
توازيًا أجلِي 177 جنديًا مصريًا، كانت قوات الدعم السريع قد احتجزتهم في السودان، إلى جمهورية مصر العربية، وفق ما أعلن ليل الأربعاء-الخميس الجيش السوداني.
كان الجيش المصري أعلن أنه يجري "جميع التنسيقات مع جهات الاختصاص بالسودان الشقيق، لتأمين عودة القوات المسلحة المصرية بسلام إلى أرض الوطن".
وبحسب الجيش المصري كان هؤلاء موجودين في قاعدة جوية شمالي السودان، لإجراء "تدريب مشترك" حين غرق السودان السبت في الفوضى.
وقُتل أكثر من 300مدني، في المعارك الدائرة منذ السبت، بحسب ما أعلنت الأربعاء سفارات 15 دولة غربية بالخرطوم في بيان مشترك، محذّرة من أنّ هذه ليست سوى "حصيلة مؤقتة".
وحثت الـ15 سفارة الجانبين على "عدم طرد الناس بشكل غير قانوني من منازلهم، وتجنّب استهداف البنية التحتية المدنية، والسماح بمرور المواد الغذائية الأساسية والمساعدات الطارئة للجرحى والمرضى".
جاء ذلك بينما أعلنت نجامينا أنّ قرابة 320 عسكرياً سودانياً فرّوا الأحد من المعارك الدائرة في بلدهم، وعبروا الحدود إلى تشاد، حيث سلّموا أنفسهم للجيش التشادي.
مستشفيات خارج الخدمة
وقصفت القوات الجوية والمدفعية من الجانبين، تسعة مستشفيات في الخرطوم، وفي المجمل خرج 39 من أصل 59 مستشفى في المناطق المتضررة من القتال عن الخدمة، أو أُجبرت على الإغلاق، وفق ما أفاد أطباء، سواء بسبب نفاد المعدات أم احتلال المقاتلين لها أم بسبب عدم تمكن الفرق الطبية من العودة لتولي مهامهم.
أما مخزونات المواد الغذائية -وهي محدودة تقليديًا في بلد يشهد في الأوقات العادية تضخمًا مرتفعًا جدًا- فهي تتلاشى إذ لم تدخل أي شاحنة مؤن العاصمة منذ السبت.
وفي بلد يبلغ عدد سكانه 45 مليون نسمة، يعاني أكثر من ثلثهم الجوع، يقول العاملون في المجال الإنساني والدبلوماسيون إنهم لم يعودوا قادرين على أداء عملهم، بعد قتل ثلاثة موظفين في برنامج الأغذية العالمي بدارفور، غربي البلاد، بينما تندد الأمم المتحدة بنهب مخزونات وكالاتها الإنسانية ومنشآتها.
في هذه الظروف الخطيرة، يعيش السكان في خوف من تعرض منازلهم أو عائلاتهم لهجوم.
فهم لم ينسوا المعارك والمداهمات، وغيرها من الفظائع التي أدت إلى إصدار مذكرتي توقيف بتهمة ارتكاب "جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانية" و"الإبادة الجماعية "في دارفور بحق الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أقصاه الجيش عام 2019.
صراع على السلطة في السودان يتحول إلى حرب مفتوحة
جثث على جانبي الطريق
وسار آلاف النساء والأطفال الأربعاء باتجاه المحافظات خارج الخرطوم، متقدمين بين الجثث التي بدأت تنبعث منها روائح قاتلة، بحسب شهود.
وحتى الممثليات الدبلوماسية التي تحاول تنظيم نقل رعاياها، لم تسلم من الهجمات، إذ تعرضت قافلة دبلوماسية أمريكية لإطلاق نار الاثنين، وتعرض سفير الاتحاد الأوروبي "لاعتداء في مقر إقامته" بالخرطوم.
وعلى سبيل المثال، بدأت وزارة الدفاع اليابانية "الاستعدادات الضرورية" لعمليات الإجلاء، وإن كان هذا الاحتمال ما زال بعيدًا، فالقتال بدأ من مطار الخرطوم الذي هو خارج الخدمة منذ ذلك الحين.
وقال المتحدث باسم الحكومة هيروكازو ماتسونو الأربعاء، إنّ قرابة 60 يابانياً موجودون في السودان بينهم موظفو السفارة.
من جهة أخرى، نقلت مجلة در شبيغل عن مصادر لم تسمّها، أنّ القتال في الخرطوم أجبر الجيش الألماني -الأربعاء- على إلغاء مهمّة إجلاء نحو 150 ألمانياً من السودان.
ورفضت وزارة الدفاع في برلين التعليق على هذه المعلومات.
لكن بحسب "شبيغل"، أقلعت ثلاث طائرات من القوات الجوية من طراز A400M صباح الأربعاء. وبعد توقّف في اليونان، كان مفترضًا أن تتّجه الطائرات إلى السودان، منتصف النهار، لكنّ العملية توقّفت.
وبعد أربعة أيام من القتال، لا يبدو أن الجيش ولا قوات الدعم السريع على وشك تحقيق النصر.
مستقبل مجهول
في الخرطوم، تستحيل معرفة أي جهة تسيطر على ماذا، في ظل حال إرباك شاملة وانتشار معلومات مضللة على الإنترنت.
مع ذلك، تُظهر صور الأقمار الاصطناعية الأضرار التي تبدو جلية، خصوصًا داخل المقر الرئيس الشديد التحصين لهيئة الأركان المحاط بجدران مرتفعة.
وتُركت عشرات الطائرات المتفحمة، بينما بدا مقرّ المخابرات العامة مدمّرًا، وتحوّل ما كان مستودعا لناقلات البنزين إلى مجرّد بقعة سوداء ضخمة.
يقول كليمان ديشاي، الأستاذ بجامعة باريس الأولى: "لا يبدو أنّ أيًا من الجانبين يحقّق انتصارًا في الوقت الحالي، ونظرًا لشدّة القتال والعنف، قد تزداد الأمور سوءًا قبل أن يجلس الجانبان إلى طاولة المفاوضات".
ويضيف ديشاي الخبير في شؤون السودان أنّه لهذا السبب "على شركائهم الإقليميين ممارسة ضغوط، وفي الوقت الحالي لا يبدو أن التصريحات تسير في هذا الاتجاه".
يرى الخبراء أنّ القوى الفاعلة وجيران السودان ومانحيه يحاولون البقاء على تواصل مع الجنرالين المتحاربين، لأنهم لا يريدون استباق الأمور والمستقبل الذي يجهلونه.